January 2016
3

ترشيد الدعم والتوجه النيوليبرالي المتوحش

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

لا خلاف إطلاقاً حول أهمية الإصلاح الاقتصادي والمالي، ليس في وقت عجز الميزانية العامة للدولة فقط، بل في جميع الأوقات، حتى أثناء الوفرة المالية، ولكن الخلاف يتمحور حول كيفية الإصلاح الاقتصادي والمالي ومدى جديته، وعدالته، وديمومته، إذ من المستحيل أن تكون هناك جدية وعدالة في الإصلاح الاقتصادي، الذي ينبغي أن يكون سياسة عامة وحزمة متكاملة لا اجتهادات فردية أو ردة فعل مؤقتة، ما لم يسبق ذلك إصلاح سياسي ديمقراطي شامل وجذري، بحيث يشارك الناس جميعاً في سلطة إدارة شؤونهم العامة وثروتهم الوطنية، وتكون هناك شفافية عالية في إدارة المالية العامة للدولة.وفي السياق ذاته فإنه لا خلاف أيضا على أهمية ترشيد الدعم الحكومي أو إعادة ترشيده، فذهاب الدعم إلى غير مستحقيه هو هدر واستنزاف للمال العام، والترشيد حجة صحيحة من الناحية النظرية، تُرددها دائماً أجهزة الحكومة المختلفة ووسائلها الإعلامية تحت عنوان جذّاب هو "إعادة ترشيد الدعم" كلما أرادوا تبرير السياسة الاقتصادية الحكومية التي تُحمّل متوسطي الدخول والطبقة الفقيرة أعباء عجز الميزانية العامة للدولة، ولكنهم يتناسون أن هذه الحجة تصبح متهافتة وعديمة المعنى، من الناحية العملية، عندما يستشري الفساد السياسي والمالي والإداري في المنظومة السياسية، حيث تستنزف الثروة الوطنية عن طريق استخدامها في غير أغراضها المشروعة، وعندما تكون أولويات الميزانية العامة وتوجهاتها منحازة اجتماعياً لمصالح كبار الأثرياء الذين يحصلون باستمرار على معظم الدعم الذي تقدمه الحكومة من جهة، ويستفيدون من الإنفاق العام أكثر من غيرهم من الجهة الأخرى، والأمثلة على ذلك باتت أكثر من أن تُعد وتُحصى، حيث تتناولها بشكل شبه يومي وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة وما أكثرها هذه الأيام، وتشير إليها باستمرار تقارير ديوان المحاسبة وصحائف استجوابات أعضاء مجلس الأمة.ومن هنا فإن التوجه الاقتصادي والمالي الحالي للحكومة الذي سبق أن أعلنته في "خطتها"، وكشف تقرير المنظمة المالية العالمية "إرنست آند يونغ" الذي نُشر مؤخرا عن آليات تنفيذه هو توجه اقتصادي نيوليبرالي متوحش لا يراعي طبيعة اقتصادنا الريعي ولا يعالج اختلالاته الهيكلية، كما أنه لا يأخذ في الاعتبار طبيعة القطاع الخاص المحلي الهش والضعيف الذي يعتاش على الإنفاق العام ولا يقوم بوظيفته الاجتماعية، فلا يدفع ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح تدعم الميزانية العامة للدولة، وقلما يوفر فرص عمل للمواطنين أو يقدم خدمات مجتمعية راقية.إن المطلوب والمُلحّ فعلاً هو مشروع إصلاح سياسي ديمقراطي شامل مع حزمة إصلاحات اقتصادية عادلة وشفافة، وتنمية إنسانية حقيقية ومستدامة، أما التوجه الاقتصادي الحالي للحكومة فإنه لا يخرج، كما سبق أن ذكرنا، عن "روشتة" صندوق النقد الدولي الشهيرة المنحازة اجتماعياً والتي تُركز بشكل عام، وبصرف النظر عن بعض التفاصيل التي قد تختلف من بلد إلى آخر، على عملية تفتيش جيوب الفقراء بحثاً عن أي مبلغ بسيط بداخلها من أجل تحويله إلى أرصدة كبار الأثرياء، وهو الأمر الذي لم ينتج عنه مشاكل اقتصادية فقط مثل الإفقار، وارتفاع معدلات البطالة، والتهميش واتساع الفوارق الطبقية، بل أيضا اضطرابات اجتماعية وسياسية في بلدان كثيرة مثل إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وإيرلندا، ودول أوروبا الشرقية، ومصر وتونس، وذلك لأن التوجه الاقتصادي النيوليبرالي يتجاهل الأسباب الجذرية التي أدت إلى العجز المالي وتراكم الدين العام، ومن ضمنها قضية احتكار السلطة والثروة، والتبعية الاقتصادية، وغياب العدالة الاجتماعية، والتكلفة الباهظة التي تترتب على استشراء الفساد السياسي وسباق التسلح، ويُركّز، بدلاً من ذلك، على إلغاء أو تخفيض الدعم الاجتماعي الضروري، وزيادة دعم محركات السوق المنفلت وآلياته المتوحشة مثل مضاربات الأوراق المالية التي لا تضيف شيئاً للاقتصاد الحقيقي، بالإضافة إلى دعوته المتكررة إلى تحرير الأسعار، ورفع القيود عن اقتصاد السوق المنفلت، وإلغاء أو تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي كي تتحول الدولة إلى مجرد حارس أمين على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في المجتمع!بقلم د. بدر الديحاني

4 يناير 2016

جريدة الجريدة