تحليل اقتصادي انتقادي من وجهة نظر مختلفة عن التوجهات السائدة لدى المحللين الاقتصاديين الكويتيين حول مشروع دعم المشاريع والشركات المتضررة من أزمة كورونا
قدمت الحكومة مشروع قانون لمعالجة بعض الآثار الاقتصادية لفيروس كورونا، وأقره مجلس الأمة في المداولة الأولى في 7 أكتوبر، وقد يقَر نهائيا في 20 أكتوبر، ولمشروع القانون هذا أهمية، أحد أوجهها أن السقف الأعلى لتكلفته ثلاثة مليارات دينار، أي %7.1 من حجم الاقتصاد الكويتي مقاساً بالناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، و%14.2 من مصروفات الدولة وفقاً للحساب الختامي للدولة عن السنة المالية 2019-2020، و%76.5 من العجز الفعلي في ذلك الحساب الختامي، و%15 من العشرين مليار دينار التي تريد الحكومة اقتراضها الآن، وكل ذلك يأتي في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة احتمال عجزها عن دفع الرواتب خلال أسابيع، أي أننا بصدد مشروع قانون ضخم التكلفة في ظروف عجز جدي في الميزانية العامة للدولة.
لذلك قد يكون مفيداً تقديم بعض الملاحظات الأساسية على مشروع القانون، وذلك بهدف تجنب تشريع قوانين اقتصادية معيبة ذات تكلفة ضخمة، علما أن لمشروع قانون دعم المشاريع والشركات المتضررة من فيروس كورونا إيجابيات عدة، لكن الملاحظات الواردة هنا ستركز على الجوانب السلبية، لأن ذلك أجدى من مجرد الثناء على الإيجابيات، كما لن يكرر هذا المقال الملاحظة المهمة حول ضم العملاء الكبار لمشروع القانون، التي رصدها عدة نواب أفاضل وبيان الحركة التقدمية الكويتية وآخرون.
وقبل تقديم الملاحظات مفصلة، من المهم الإشارة إلى أن هدف المقال ليس رفض مشروع القانون من حيث المبدأ، فقد وقع ضرر جسيم على كثير من المؤسسات الاقتصادية والأفراد جراء فيروس كورونا، وذلك يشمل المشاريع والشركات الخاصة، وهناك مبررات معقولة لتدخل الدولة لدعم المتضررين، وتحديداً في حالة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ذلك أن الحكومة، وعلى مدى سنوات عدة، دفعت الشباب بقوة نحو إنشاء هذه المشاريع بدعوى دورها في التنمية الاقتصادية، وهي دعوات كان مبالغاً بها وتم التحذير منها حينها، لكنها ليست المرة الأولى التي ترسي بها الحكومة دعائم ركيكة للاقتصاد لتُفاجأ لاحقاً بالانهيار.
ويمكن تقسيم الملاحظات إلى ثلاثة أنواع، هي الملاحظات المتعلقة بعنوان مشروع القانون، والملاحظات المتعلقة بضوابط التمويل، والملاحظات المتعلقة بالخلفية الفكرية لمشروع القانون.
الملاحظات المتعلقة بعنوان مشروع القانون
أ- إن عنوان مشروع القانون غير دقيق، وقد يكون مضللاً، وذلك من جانبين على الأقل، كلاهما متعلق بالمستفيدين من مشروع القانون، وهم أصحاب المشاريع والشركات والبنوك، فالعنوان الكامل لمشروع القانون هو «مشروع قانون بدعم وضمان تمويل البنوك المحلية للعملاء المتضررين من تداعيات أزمة فيروس كورونا»، وجانب عدم الدقة الأول هو تعبير «العملاء»، ذلك أن محتوى مشروع القانون في مجمله لا يغطي جميع العملاء، إنما يركز على أصحاب المشاريع والشركات فقط، فهو لا يركز مثلاً على حالات الأفراد والموظفين والمقترضين المتضررين من فيروس كورونا، إلا في جزء من مادة واحدة تذكر صراحة «الأفراد»، والمؤسف أن ذلك جاء في تعريف «العملاء الآخرون» في المادة 1، وهو التعريف المستخدم لضم العملاء الكبار إلى مشروع القانون، بحيث لا يقتصر على المشاريع والشركات الصغيرة والمتوسطة، إضافة لإشارة عرضية الى«الأفراد» في المذكرة الإيضاحية، ومن حيث المبدأ لا بأس من وضع قانون خاص لدعم المشاريع والشركات، طالما أن العملاء الآخرين من غير أصحاب المشاريع والشركات مغطون في قوانين أخرى، أما اعتبار «العملاء» مرادفين لـ«أصحاب المشاريع» و«الشركات» فذلك غير دقيق، ولعل له خلفية فكرية أتطرق إليها أدناه.
ب- أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتعبير «البنوك المحلية» الوارد في عنوان مشروع القانون، حيث إن تعريف «البنوك المحلية» في المادة 1 من مشروع القانون هو «البنوك الكويتية وفروع البنوك الأجنبية المسجلة لدى البنك المركزي»، أي إن فروع البنوك الأجنبية مغطاة بمشروع القانون، وقد تستفيد منه مالياً، بل يمكن نظرياً أن تستفيد فروع البنوك الأجنبية لوحدها من مشروع القانون، وذلك أمر مستغرب، وإن كانت هناك إيجابيات يمكن فهمها من مساهمة فروع البنوك الأجنبية في تمويل المشاريع والشركات المتضررة، لكن حتى في هذه الحالة لماذا مساواتها بالبنوك الكويتية؟
الملاحظات المتعلقة بالخلفية الفكرية لمشروع القانون
يمكن اعتبار مشروع قانون دعم المتضررين من فيروس كورونا حالة تستحق الدراسة في الطرح الإيديولوجي، والمقصود بالطرح الإيديولوجي هنا الطرح العام المقدم للمجتمع والذي يدّعي أنه طرح موضوعي بينما هو في حقيقته منحاز لفئة دون أخرى، ولا يُشترط في ذلك أن يكون من صاغ مشروع القانون واعيا بتحيزاته، بل لعل أمضى التحيزات تلك التي لا يشعر بها حتى صاحبها.
التوجهات الاقتصادية والفكرية
إن الواضح في صياغة مشروع القانون أنه لا يمثل مختلف التوجهات الاقتصادية والفكرية، بل يمثل توجهات محددة، مثل التوجه النيوليبرالي أو الليبرالي الجديد، القائم على دعم آلية السوق والقطاع الخاص وتخفيف الضوابط عن الشركات الأجنبية وغيرها، وعادة ما يسهل رصد هذا الطرح الإيديولوجي لأن أصحابه عادة ما يتحدثون عن «الاقتصاد» وكأنه مرادف للسوق أو حتى البورصة بشكل أساسي، و«السوق» وكأنه مرادف للشركات الخاصة بشكل أساسي، وأن معيار النجاح الاقتصادي هو حجم أرباح الشركات الخاصة بشكل أساسي، وأن مصلحة الشركات الخاصة تطابق بالمجمل مصلحة الأفراد، ودور الدولة أن تتبنى هكذا رؤية للاقتصاد، ولاغضاضة أن تدعم الدولة الشركات الخاصة دون منفعة مباشرة للدولة لأنها بذلك تدعم الاقتصاد والمجتمع ككل، كل ذلك طرح ليس فنيا بحتا، بل طرح فكري مثير للجدل ومنفصل إلى حد بعيد عن واقع أي اقتصاد في العالم، سواء الاقتصاد الكويتي أو الأميركي أو الهولندي أو المصري.
وقد يفسر هذا التحيز الفكري اعتبار مشروع القانون أن «أصحاب المشاريع» و«الشركات» هم «العملاء» الوحيدون أو الأساسيون في الاقتصاد والمتضررون من فيروس «كورونا»، بينما الواقع واضح وهو أن هناك «عملاء» آخرين هم الأفراد والموظفون والمؤسسات التعاونية وغير الربحية والحكومة نفسها وغيرهم، بل هؤلاء قد يمثلون أهم «العملاء» في الاقتصاد الكويتي وغيره من دول العالم.
هذا وقد تكون الخلفية الفكرية لمشروع القانون كينزية، بمعنى أنها تريد تكريس دور الدولة الاقتصادي كجزء من الاقتصاد الرأسمالي (وإن كان ذلك غير واضح بالنسبة لي في مشروع القانون)، لكن المهم على أي حال الصراحة في تقديم مبررات لمختلف الصياغات المنتقَدة أعلاه، وألا يتم تقديمها على أنها سياسات اقتصادية «فنية» أو «علمية» بحتة، بل هي سياسات تأتي من مدارس فكرية محددة ومثيرة للجدل وهناك بدائل جيدة عنها.
ولعل هذه الدعوة للانفتاح الفكري لا تقتصر على فريق الحكومة الاقتصادي الذي صاغ مشروع القانون، بل قد تفيد عدداً من الاقتصاديين الشباب المخلصين والمهتمين بالتعليق على القضايا الاقتصادية، لكن يبدو أنهم غير مطلعين على المدارس الفكرية المختلفة في علم الاقتصاد، بالتالي يرون الأمور من منظور ضيق، ولعل ذلك نتيجة مفهومة لكون كثير من الاقتصاديين الشباب أسرى المناهج التي درسوها مؤخرا في أقسام الاقتصاد والتمويل في معظم الجامعات الغربية، أو الجامعات الكويتية التي تستورد كثيراً من مناهجها من هناك، وكثير من هذه المناهج ضيق الأفق ولا يخرج كثيراً عن الإطار النيوليبرالي الشائع منذ الثمانينيات والذي بدأ بالتراجع مع أزمة 2008 الاقتصادية العالمية، فالمطلوب أن يحرص الاقتصاديون على دراسة تاريخ علم الاقتصاد ومدارسه المختلفة، ليطوروا مهارات التفكير الاقتصادي النقدي الخاص بهم، والمنطلق من واقع الاقتصاد، عوضاً عن التأثر من دون وعي بمدرسة فكرية واحدة لأنها سائدة في زمن ما.
الملاحظات المتعلقة بضوابط التمويل
أ◄ يعرّف مشروع القانون «العملاء المتضررين» في جزء منه بأنهم «العملاء الذين… لهم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني»، ولا يرد في مشروع القانون تعريف لـ «القيمة المضافة»، بالتالي قد يكون المقصود منها أحد المعاني الاقتصادية الشائعة، والتي قد تكون أن القيمة المضافة هي أي نشاط يتم في إطار السوق ومقابله سعر، سواء كان سلعة أو خدمة، بالتالي فإن الورشة الصغيرة أو المصنع المتوسط اللذين ينتجان منتجات وطنية تعتمد على تقنية عالية يقدمان قيمة مضافة كبيرة ونوعية للاقتصاد الوطني، لكن كذلك المحل الصغير أو المتوسط القائم على استيراد السلع الاستهلاكية الفارهة وبيعها يقدم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، رغم هامشية مساهمته في هيكل الاقتصاد، بل ربما مساهمته في تشويهه عبر تكريس النزعة الاستهلاكية غير المنتجة عند المستثمرين والمستهلكين، وكذلك مساهمته في الاستيراد غير الضروري، وأحد البدائل عن تعبير «قيمة مضافة» غير المعرّف في مشروع القانون هو تعريف العملاء المتضررين بأنهم «الذين لهم نشاطات منتجة في الاقتصاد الوطني»، والمقصود بـ «منتجة» وبشكل عام النشاطات التي تساهم في تقديم منتجات نوعية وجديدة تعزز من تنافسية الاقتصاد واستقلاله عن الاعتماد على النفط والاستيراد، وليس أي «قيمة مضافة» أي كانت.
ب◄ ضمن تعريف «العملاء المتضررين» هناك إشكال آخر، حيث يعرفهم مشروع القانون في جزء منه بأن لهم «قدرات على خلق فرص للعمالة الوطنية»، أي إنه لا يشترط وجود عمالة وطنية لدى المشاريع والشركات الآن، كما أنه لا يحدد كيفية قياس «القدرات على خلق فرص للعمالة الوطنية»، ولا يتحدث مباشرة عن «توظيف العمالة الوطنية»، بل مجرد «خلق فرص»، بالتالي يمكن نظرياً للمشاريع والشركات المستفيدة من القانون أن تدّعي أنها ورغم عدم توظيفها أي عمالة وطنية فعلياً إلا أنها «خلقت فرصاً» لكن العمالة الوطنية لم تقبلها، علماً أن هناك ضوابط جيدة في المادة 15 تحظر فصل العمالة الوطنية وتلزم المستفيدين تحقيق نسبة العمالة الوطنية المحددة لنشاطهم بحلول نهاية عام 2021.
ت◄ لا يوجد تفضيل صريح في مشروع القانون لمن يعين عدداً أو نسبة أكبر من العمالة الوطنية، فصحيح أن مشروع القانون يستهدف حماية العمالة الوطنية وتشجيع توظيفها لدى المستفيدين، لكنه لا يحوي نصوصاً تحفز على زيادة توظيف العمالة الوطنية، فهو يعامل من لا يوظف كويتياً واحداً كمن يوظف عشرين كويتياً من حيث قدرتهم على الاستفادة من الدعم.
ث◄ لا يوجد حد أعلى للرواتب التي يمكن دفعها عبر التمويل المتحصل من مشروع القانون، فهو يحصر أوجه إنفاق التمويل في «النفقات» أو «الالتزامات» أو «الاحتياجات»، على أن تكون «دورية تعاقدية» و«تشغيلية» و«أساسية» و«مطلوبة»، وتذكر المادتان 4 و5 صراحة «الرواتب» كمثال للنفقات المقبولة، وهذه قد تشمل رواتب مديرين بآلاف الدنانير، والسؤال هنا: لم تدعم الخزانة العامة للدولة هكذا رواتب لدى المشاريع والشركات المتضررة؟ علما أن هناك ضوابط جيدة في المادة 14 تحظر «استخدام التمويل لأغراض المضاربة أو المتاجرة في العقارات أو الأوراق المالية» وغيرها.
ج◄ هناك ضوابط زمنية لمدى استمرار دعم الدولة للتمويل ولحجمه، مثلاً: سنتا سماح للعملاء الصغار والمتوسطين، لكن الضوابط ليس لها تبرير واضح في نص مشروع القانون ولا في المذكرة الإيضاحية، وكذلك لا تبرير واضحاً لنسب الدعم والضمان التي تقدمها الخزانة العامة للدولة لمختلف الفئات، مثل تغطية كل فوائد وعوائد التمويل لأول سنتين، و%90 منها في السنة الثالثة، و%80 منها في السنة الرابعة.
ح◄ يجب ألا نقبل من دون مبررات صريحة ومقنعة مبدأ دعم الدولة لأصحاب المشاريع والشركات من دون مقابل مباشر للدولة، سواء كانت مشاريع وشركات صغيرة أم كبيرة، فهذا مبدأ غير متفق عليه لا اقتصاديا ولا سياسيا، وهناك أمثلة في الكويت على دعم الدولة للشركات مقابل منفعة مباشرة للدولة، مثلا عبر تحفيز البورصة بشراء الأسهم، عندما تكون أسعارها متدنية خلال أزمة ما، على أن يتاح للدولة بيعها عند انتعاش البورصة وارتفاع أسعار تلك الأسهم، أما في مشروع قانون دعم المتضررين من فيروس كورونا فهو دعم من دون منفعة مباشرة ومرجحة للدولة، بل هناك خسارة مباشرة متوقعة جراء الحاجة لتغطية نسبة من تمويل المتضررين الذين سيتعثرون في السداد، وفي ذلك دعم للبنوك أيضا، ومرة أخرى من دون منفعة جديدة ومباشرة للدولة.
وأحد الحلول التي يمكن بحثها تضمين مشروع القانون ضريبة لتعويض الخزانة العامة للدولة عن المخاطرة والخسارة، جراء دعم تمويل المشاريع والشركات المتضررة والبنوك، مثلا عبر فرض «ضريبة التحفيز الاقتصادي» على أرباح المشاريع والشركات، بحيث يتم دفعها بعد تلاشي آثار جائحة كورونا (بعد ثلاث سنوات مثلا بعد دراسة الآثار)، وتخصص عوائد الضريبة لتعويض التحفيز الاقتصادي الحالي والمستقبلي، بحيث تكون عوائد الضريبة بمنزلة آلية لموازنة التقلبات الدورية والحادة التي تصيب الاقتصاد الرأسمالي counter-cyclical mechanism، وهناك سوابق قانونية لذلك، مثل القانون رقم 19 لسنة 2000 في شأن دعم العمالة الوطنية وتشجيعها للعمل في الجهات غير الحكومية، والذي فرض ضريبة %2.5 على أرباح الشركات الكويتية المدرجة في بورصة الكويت للمساهمة في تمويل دعم العمالة، الذي تدفعه الحكومة للكويتيين العاملين في القطاع الخاص، والذي يمكن اعتباره دعما غير مباشر للشركات الخاصة.
بقلم الأستاذ مرزوق النصف
القبس ١٧ أكتوبر ٢٠٢٠