November 2013
6

اشتراكية التنويريين!

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم: د.فواز فرحان*

في البداية أود أن أوضح بأنني كتبت هذا المقال من منطلق فكري وسياسي وليس من منطلق عداء شخصي مع التنويريين؛ فبعضهم أصدقاء أعزاء رغم الاختلاف في الأفكار والمنطلقات. وكذلك يجب أن أبيّن تعريف كلمة (تنويري) كما فهمتها مما قرأته إما من اطلاعي العام على كتابات ليست للتنويريين أو من كتابات رموزهم ومنظّريهم وكذلك من مواقفهم لكي يستطيع القاريء فهم نقاط الاختلاف والاتفاق بين خطي كتقدمي يساري وبين خطهم. التنويري -أو العقلاني كما يحب بعضهم نعت نفسه- هو من يعتقد بأن مشكلة المجتمع الأساسية تكمن في ثقافته أو في موروثه الثقافي وأن مفتاح تغيير أي مجتمع هو تغيير هذه الثقافة أو هذا الموروث الثقافي من خلال نشر ما يعتقد به هذا التنويري من أفكار.وهنا أختلف معهم -كتقدمي يساري- ؛ حيث أنني أعتقد بأن مشكلة المجتمع الرئيسية تكمن في الاستغلال الطبقي وفي سيطرة الطبقة البرجوازية على المجتمع الرأسمالي وفرضها لقواعدها وشروطها والتي تنعكس على هيئة الدستور والقوانين والأعراف السائدة والتي ترسخ وتثبت سيطرة هذه الطبقة المستغِلة. وإذا أردت تحليل منطلق التنويرين أو العقلانيين من ناحية فلسفية فأنا أضعه في خانة (المثالي) الذي يعتقد بأسبقية الوعي والفكرة على الواقع المادي والذي يعاكس ما أعتقد به أنا من أن الواقع المادي هو الذي ينتج الوعي والفكرة، فتجد التنويري أو العقلاني يأتي بالفكرة الجاهزة التي اقتنع بها هو ويريد فرضها ثقافياً على المجتمع كله بهدف تغيير واقعه ومظاهر هذا الواقع المختلفة؛ وهذا ساقط فلسفياً على يد الفلسفة المادية وساقط منطقياً لأن لغة وأسلوب مخاطبة الأفراد تختلف من فرد للآخر بسبب العوامل الذاتية والموضوعية التي أوجدت الفروقات بين الأفراد وكذلك ساقط تاريخياً على يد الأحداث التي مرت بها البشرية وأثبتت أن الواقع المُعاش هو ما ينتج الرغبة في التغيير وبالتالي تبلوُر الأفكار وزيادة الوعي المجتمعي.

بعد هذه المقدمة المطوّلة أستطيع الآن الدخول إلى تحليل وضع التنويريين عموماً والعرب منهم خصوصاً و وضع مواقفهم بمكانها الصحيح من وجهة نظري. يعاني التنويريون -وكنت منهم في يوم من الأيام- من انفصال فظيع عن الواقع المُعاش لأنهم لا يستوعبون أن هذا الموروث الثقافي المجتمعي ليس إلا نتيجة تراكم تاريخي من تجارب وخبرات وأفكار من سبقنا من المجتمعات على مر العصور، وحتى وإن استوعب بعضهم ذلك فإن هذا الاستيعاب لا يشفع -بالنسبة لهم- للمجتمع تمسكه بهذا الموروث بل ويحملونه مسؤولية وجود هذا الموروث وبقائه حتى هذا اليوم! ويتعامل التنويريون مع المجتمع وكأن أفراده بنفس المستوى العلمي والمعرفي فيطالبونه بترك هذه الأفكار والموروثات السائدة واستبدالها بالأفكار الجديدة التي يتبونها ويعتقدون بأنها كفيلة بنهضة المجتمع! هذا الطرح التنويري مآله إلى الاضمحلال واليأس والسعي للهروب من المجتمع لأنه (متخلف) كما يحبون أن يسمونه، وهذا الطرح انقرض تقريباً منذ القرون الوسطى على يد الواقع لأن المجتمعات لا تتغير بتغيير أفكارها بل تتغير بسبب تغيير الواقع المادي من خلال الثورات الطبقية والتي ينتج عنها لاحقاً كنتيجة طبيعية تغيير تدريجي في الأفكار وفي درجة الوعي المجتمعي وبالتالي تبدّل في موروثه الثقافي؛ والأدلة التاريخية حافلة بالأمثلة على هذا مثل نشوء المجتمع الزراعي على أنقاض المجتمع الرعوي ونشوء المجتمع الإقطاعي بعد ثورة العبيد وبداية عصر الرأسمالية بعد الثورة على الإقطاع وما أنتجته هذه التغييرات في الواقع المادي من تغييرات على مستوى ثقافات وموروثات المجتمعات لاحقاً.

التنويريون عموماً والعرب منهم خصوصاً يتبنون اليوم الإيديولوجيا الليبرالية حتى وإن لم تعجبهم كلمة إيديولوجيا كما يكررون دائماً؛ فالاعتقاد بأن السوق الحرة هي الأصح من الاقتصاد الاشتراكي يعتبر نوع من الأدلجة. ويحوم التنويريون دائماً في فلك الثقافة الغربية وبالذات الثقافة الأميركية اعتقاداً منهم بأنها الأنسب للعالم متناسين أو ربما جاهلين بالويلات التي نتجت عن هذه الثقافة وعانت منها أغلب دول العالم ابتداءً بعصر الاستعمار وانتهاءً بالسيطرة الأميركية-الغربية إمبريالياً على مقدرات الشعوب. ويعتقد التنويريون وخصوصاً العرب منهم لأنهم مثاليون فلسفياً بأن صراعهم الرئيسي مع التيارات الدينية؛ لذلك لا تجد لهم موقف واضح يذكر من السلطات القمعية العربية وربما يلتحف بعضهم بلحافها ويتقلد المناصب لها رغم وجود استثناءات بسيطة بينهم لا تصطف مع هذه السلطات بسبب وعي متقدم نسبياً. بل الأنكى من ذلك هو اتخاذهم لمواقف عدائية من التيارات الديمقراطية والتقدمية التي تشارك بالحراكات الشعبية ضد الأنظمة القمعية كما رأينا في الأحداث المتتالية ضمن ما يسمى بالربيع العربي وذلك لأن هذه التيارات اصطفت مع التيارات الدينية في مرحلة التخلص من الاستبداد بسبب بوصلة صراعهم المتجهة دائماً نحو التيارات الدينية في إطار سعيهم نحو تغيير ثقافة المجتمع تلقينياً.

في الكويت مثلاً اتخذ التنويريون موقفاً معادياً من التيار اليساري التقدمي (كتجمعات سياسية أو توجهات فردية) بسبب اختلافهم في المبدأ والمنطلق معه؛ فالتيار اليساري التقدمي يعتقد بأن الصراع السياسي يتمحور حول تطوير البلد ديمقراطياً وأن مشكلة البلد تكمن في نهج المشيخة الذي يعرقل هذا التطور بينما التنويريون يعتقدون بأن صراعهم الرئيسي مع التيار الديني متناسين أن من دعم هذا التيار وكبّره ونمّاه ودعمه هي السلطة التي يظنون بأن لها نَفَساً منفتحاً يدعم الحريات الشخصية التي تشكل هاجسهم الأكبر! ويختزل التنويريون الكويتيون التيار اليساري التقدمي بتجربة الاتحاد السوڤييتي أو أوروبا الشرقية -مع أهمية هذه التجارب وثرائها على المستوى الفكري وعلى مستوى المشروع ومن دون إنكار لنواقصها وأخطائها- بالرغم من أن هذا التيار يحتوي على مدارس عديدة وتوجهات متنوعة تتدرج من المؤمنين بالعدالة الاجتماعية بتعريفها البسيط مروراً بالإشتراكية الديمقراطية والإشتراكية الطوباوية والإشتراكية التي ظهرت في المدرسة القومية والناصرية وصعوداً نحو التروتسكية والماوية والماركسية اللينينية، كما أنهم غير منتبهين إما جهلاً أو تدليساً للمنطلق التي تنطلق منه هذه المدارس والاتجاهات المختلفة وكذلك للتجارب المختلفة والتي انهار بعضها ومازال بعضها الآخر يتطور ويسيطر على مناطق كثيرة في أوروبا وأميركا الجنوبية. يتحدث التنويريون عن الإشتراكية من غير معرفة هذه التفاصيل وربما تكون معلومات بعضهم مستقاة من موقع (ويكيبيديا) إلا أن شراسة هجومهم عليها ملفتة للنظر وقد يفسرها إما الاتصال والتواصل بين بعض هؤلاء التنويريين وبعض الجهات الرسمية الأميركية من سفارات أو مؤسسات تلبس لباس المجتمع المدني أو الدافع الشخصي العدائي من بعض اليساريين التقدميين. وبسبب هذا المفهوم المغلوط -إما تعمداً أو جهلاً- عن الإشتراكية خطر ببالي أن أسميها بإشتراكية التنويريين!

الخط التنويري العقلاني هو خط محدود ومرفوض اجتماعياً بسبب اصطدامه مع موروث المجتمع بطريقة غير علمية وبالتأكيد هو لا يطرح مشروعاً نهضوياً يرتقي بالمجتمع لأنه يستهدف البنيان الثقافي للمجتمع ذي التنوع في المستويات المعرفية والعلمية وبالتالي لن يكون إلا (شلة نخبوية) تجتمع فيما بينها وتنظّر بشكل مقلوب وتقيم فعاليات تكرر ما تم طرحه في فعاليات سابقة (لتُسعد) منتسبي هذا الخط وبعيداً عن المشاكل الحقيقية التي تواجه المجتمع.

--------------------------------------

*عضو التيار التقدمي الكويتي.