June 2021
19

الحركة التقدمية الكويتية: حكومتنا إما أن تكون مصابة بانفصام شخصية أو أنها تتعمّد التضليل والخداع... فوزير المالية نفسه يدعي من جهة عدم المساس بمحدودي ومتوسطي الدخل... ويكشف من جهة أخرى أنّ الفريق الحكومي لاستقراء الوضع الاقتصادي يدعو إلى اتباع سياسة إفقار الشعب.

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم: أحمد الديين

(العدد الثامن من جريدة الديمقراطي)

نحن الجيل الذي تفتح وعيه قبل ستين عاماً مع إعلان الاستقلال وقيام الدولة الكويتية الحديثة، حيث شهدنا بأعيننا طيّ «العلم الأحمر» لإمارة الكويت، الذي كان كما يصفه كتاب المطالعة في المدرسة الابتدائية بكلمات لا تزال الذاكرة تحفظها: «علم بلادي… لونه أحمر… كتبت عليه كلمة كويت» لنهتف بعده بالمجد لعلم دولة الكويت بألوانه الأربعة… واختفت من أمام ناظرينا لوحات «العلمين» من سيارات الشيوخ ولكن من دون أن تختفي سطوة الشِيخَة… وتوقفنا عن استعمال «الروبية» الهندية لنتداول الدينار الكويتي، مع ما حمله ذلك الاستبدال من تضخم نقدي وارتفاع في الأسعار… وانتقلنا من بيوت الطين أو تلك المبنية من الصخر البحري في «فرجان الديرة» إلى المناطق السكنية الحديثة، ومع هذا الانتقال خرجنا من شرنقة «السور» وطلعنا من «دروازاته»، بكل رمزيتها التاريخية والاجتماعية إلى رحاب الكويت… وعشنا فترة مفصلية عندما تلاشت أمامنا خلال سنوات معدودات ما كان صامداً لقرون من بقايا الميناء الكويتي النشط واقتصاد الملاحة البحرية من «سفر» و«قطاعة» و«قلافة» للسفن الخشبية، وتداعت معها علاقات انتاج بائدة وقيم اجتماعية تقليدية… باختصار، شهدنا الحدث الكبير المتمثل في مولد الدولة الكويتية الحديثة.

وها أنا اليوم أكتب شهادتي التاريخية بصفتي أحد أبناء ذلك الجيل، جيل تأسيس الدولة الكويتية الحديثة، التي نالت استقلالها السياسي قبل ستين عاماً في التاسع عشر من يونيو/ حزيران من العام 1961، وخلال هذه العقود الستة شهدت الكويت ما شهدته من تحقيق انجازات وطنية وديمقراطية وتحولات اجتماعية كبرى، مثلما واجهت الكويت خلالها ولا تزال تحديات خطيرة وتعرض مسارها إلى ما تعرض له من تراجعات مؤسفة. 

من المشيخة إلى الدولة:
كانت بلادنا قبل ستين عاماً إمارة تقليدية في ظل الهيمنة الاستعمارية البريطانية لمدة ستين عاماً أخرى سبقت الاستقلال، واتخذت تلك الهيمنة الاستعمارية صوراً مختلفة، بدأت بمعاهدة حصر العلاقات الخارجية في بريطانيا وعدم التعاقد مع دول أخرى إلا بموافقتها في 1899 ، ثم تكرّست هذه الهيمنة في ثلاثينات القرن العشرين بالامتيازات النفطية المجحفة وتكريس الاستعمار الاقتصادي إلى جانب الاستعمار السياسي، وبعدها اتخذت تلك الهيمنة الاستعمارية صورة الحماية، من دون أن تصل إلى احتلال عسكري وإدارة سياسية مباشرة، مثلما كانت الحال في إمارات خليجية أخرى.

وفي المقابل فقد برزت الدعوات الاستقلالية التي أطلقها رواد الحركة الوطنية الكويتية منذ ثلاثينات القرن العشرين، خصوصاً خلال فترة الحكم الدستوري النيابي قصيرة الأجل، وتنامت هذه الدعوات الاستقلالية في خمسينات القرن العشرين، بالتزامن مع تنامي حركات التحرر الوطني في البلاد العربية وفي آسيا وأفريقيا ومع بدء انهيار النظام الاستعماري العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية… ثم تشكلت في نهاية الخمسينات ظروف إقليمية تتصل بمحاولات ضم الكويت إلى ما كان يسمى «الاتحاد العربي» وهو اتحاد بين المملكتين الهاشميتين العراقية والأردنية، حيث دفعت تلك الظروف الكويت على نحو متسارع باتجاه نيل استقلالها السياسي، ولكن محاولات الضم سرعان ما سقطت مع سقوط النظام الملكي في العراق في أعقاب «ثورة 14 تموز 1958»، ومع ذلك فإنّ مسار عملية نيل الكويت استقلالها لم يتوقف، وهذا ما تحقق في 19 يونيو 1961، حيث طويت صفحة الإمارة التقليدية الخاضعة للاستعمار البريطاني بإعلان تأسيس الدولة الكويتية الحديثة، التي سرعان ما واجهت تهديداً مصيرياً في أزمة 1961 مع العراق، ما اتاح الفرصة أمام بريطانيا، في مفارقة تاريخية، لإرسال قوات عسكرية إلى الكويت، التي نالت للتو استقلالها السياسي عنها وذلك بالاستناد إلى أحد بنود اتفاقية 1961، قبل أن تبادر جامعة الدول العربية إلى إرسال قوات من بلدان عربية لحماية استقلال الدولة الوليدة بالتزامن مع انسحاب القوات البريطانية، ولاحقاً في العام 1969 تم إلغاء ذلك البند الذي يتيح الاستعانة بقوات بريطانية، وجرى ذلك في إطار السياسة البريطانية الجديدة شرقي السويس التي قضت بانسحاب قواتها من القواعد والوجود العسكري المباشر فيها، وهي السياسة التي فتحت الطريق نحو استقلال بقية الإمارات الخليجية، التي كانت الكويت قد سبقتها بذلك قبل نحو عقد من الزمان.

وعندما نتحدث عن استقلال الكويت، فلا يمكننا أن نقفز على ما عانت منه الكويت ولا تزال من وضع جيوسياسي هش يمثّل تهديداً مباشراً لوجودها واستقلالها، وهو ما تجلى بأبشع صوره في الغزو العراقي للكويت واحتلالها في العام 1990 في العهد البائد لنظام صدام حسين، وتجلى في أروع صوره بالصمود البطولي للشعب الكويتي في وجه الاحتلال عبر تضحيات الشهداء ومعاناة الأسرى… وهذا ما يفرض على الكويتيين إبقاء مهمة إبقاء قضية استقلال الكويت في مقدمة أولويات المهمات الوطنية التي لا يصح التهاون في تلبية متطلباتها عبر العمل دوماً على تعزيز منعة الكويت والحفاظ على سيادتها الوطنية، وهذا ما يتطلّب وجود جبهة داخلية متماسكة في إطار نظام ديمقراطي يكفل حريات المواطنين وحقوقهم ويعيد الاعتبار إلى مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، مثلما يتطلّب بناء جيش نوعي ذي كفاءة واقتدار في تسليحه وتدريبه وجاهزيته يعتمد على الجمع بين آليات التطوّع والتجنيد الإلزامي، وتعبئة قوة الاحتياط واستدعائها وقت الحاجة؛ وإشراك الشعب في منظومة الدفاع عن الوطن، كما يتطلّب الالتزام بانتهاج سياسة خارجية تراعي المصالح الوطنية.

مشروع بناء الدولة الحديثة بين الانطلاقة الواعدة والتراجع المنظم:
لا ريب في أنّ الانجاز الأكبر الذي تحقق بعد الاستقلال تمثّل في الانطلاقة الواعدة لمشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة في العام 1962، عبر دستور، كان ولا يزال رغم أهميته التاريخية والسياسية مجرد دستور حدّ أدنى، فهو ليس دستوراً ديمقراطياً مكتمل الأركان، ولكنه كفل هامشاً من حقوق المواطنين وحرياتهم؛ ووضع أسس نظام مؤسسي، ولكن في إطار غير متوازن من فصل السلطات جراء هيمنة السلطة التنفيذية عليها والسلطات الواسعة المتاحة لرئيس الدولة؛ وأقر بوجود مؤسسات للمجتمع المدني ولكنه فرض عليها وصاية حكومية شبه كاملة، وأقام شكلاً أولياً غير مكتمل من الإمارة دستورية وفق نظام هجين وسط يجمع بين ديمقراطية النظام البرلماني وسطوة النظام الرئاسي، حيث تمّ ذلك ضمن ميزان القوى القائم حينذاك وفي إطار توافق تاريخي بين الأمير وأعضاء المجلس التأسيسي، واستناداً إلى تاريخ طويل من المطالبة بالمشاركة في الحكم يمتد إلى عشرينيات القرن العشرين.

وشهد جيلنا سلسلة طويلة ممتدة من العقبات والعراقيل التي حاولت السلطة فرضها أو نجحت في فرضها لإعاقة مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، حيث تراجعت القوى المتنفذة في أسرة الحكم عن المشاركة الايجابية في هذا المشروع. وحاولت تزوير الإرادة الشعبية في انتخابات مجلس الأمة الثاني في 25 يناير/ كانون ثاني 1967،  وإيقاف العمل بالدستور والانقلاب عليه بين 1976 و1981 وبين 1986 و1992 عبر تعليق بعض مواد الدستور وتعطيل الحياة النيابية وفرض قيود على الحريات العامة، ومع ذلك فقد مُني الانقلابان السلطويان بالفشل، إما بتأثير الظروف الإقليمية المتغيرة، أو بفضل الموقف الشعبي الرافض، خصوصاً تلك التجمعات الحاشدة لديوانيات الاثنين في 1989 و1990 التي نظمتها قوى المعارضة لعودة العمل بدستور 1962، مع تكرار محاولات تنقيحه على نحو يؤدي إلى الانتقاص من الحد الأدنى المتوافر فيه من الحقوق والحريات الديمقراطية بين 1980 إلى 1983، هذا ناهيك عن أشكال التدخل المتنوعة في الانتخابات النيابية المتعاقبة، وتعزيز سطوة السلطة التنفيذية أكثر فأكثر وتقليص دور البرلمان، وهذا ما كرّس مع مرور الوقت نهج الانفراد بالسلطة، وتشريع ترسانة من القوانين غير الديمقراطية، التي أفرغت الدستور من مضامينه الديمقراطية المحدودة بالأساس، بحيث جرى احتكار القرار السياسي والمناصب الأساسية في الإدارة السياسية للدولة بأيدي أسرة الحكم، وتحوّل مجلس الوزراء إلى جهاز تنفيذي يتلقى التوجيهات بدلاً من كونه، مثلما يُفترض دستورياً، سلطة سياسية مقررة، هذا غير الإجراءات غير الديمقراطية التي تزايدت خلال السنوات الأخيرة وتمثلت في الملاحقات السياسية تحت غطاء قانوني لعناصر المعارضة وأصحاب الرأي والمشاركين في الاحتجاجات الشعبية وإصدار أحكام قاسية بحقهم، واتخاذ قرارات انتقامية انتقائية جائرة بإسقاط الجنسية الكويتية أو سحبها أو فَقْدها من عدد من المواطنين لأسباب سياسية.

وجراء ذلك فقد تجذّرت مشكلة الفشل في الدولة، وترهل جهازها الإداري واعتراه الفساد السياسي والمالي والإداري، ما انعكس سلباً على حياة الناس والخدمات العامة والنشاطات الاقتصادية.

وبذلك حدث تراجع منظم عن مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، وتعرضت الحياة السياسية في البلاد إلى تشويه خطير وتدهور كبير، بحيث انسد عملياً أي أفق جدي للإصلاح والتغيير في إطار هذه الصيغة المشوهة، وهذا ما يتطلب مواصلة النضال من أجل إطلاق الحريات العامة وإحداث حالة انفراج في الحياة السياسية، وتوفير ميزان قوى مناسب لتحقيق إصلاح سياسي ديمقراطي ينهي نهج الاستبداد والانفراد بالسلطة ويستعيد المشاركة الشعبية في إدارة الدولة وفي القرار السياسي، ويفتح الباب أمام إصلاح النظام الانتخابي على أسس ديمقراطية ويقيم حياة حزبية سليمة في إطار التعددية، ويصلح حال المؤسستين التنفيذية والتشريعية؛ ويضع حداً للإفساد والتشويه الجاريين في الحياة السياسية والحياة البرلمانية والمؤسسات الإعلامية، ويؤدي إلى إقامة نظام برلماني ديمقراطي مكتمل الأركان. 

تأميم النفط معركة الاستقلال الاقتصادي التي قادتها الحركة الوطنية:
أما الانجاز الكبير الثالث الذي حققته الكويت خلال السنوات الستين فهو تصفية الامتيازات النفطية المجحفة لشركات النفط الأجنبية وتأميم النفط في العام 1975، عندما تم امتلاك شركة نفط الكويت المملوكة لشركتي برتيش بتروليوم البريطانية والجلف الأميركية، وكذلك شركة الأمينويل، ثم الزيت العربية اليابانية، وأصبحت الثروة النفطية بيد الدولة الكويتية، وتحققت درجة مهمة من درجات الاستقلال الاقتصادي… والفضل في تحقيق هذا الانجاز الوطني الكبير إنما يعود إلى الحركة الوطنية الكويتية، التي طالما طالبت بفرض السيطرة الوطنية على القطاع النفطي، وسيحفظ التاريخ الدور المشهود لأستاذنا الكبير عبدالله النيباري في التمهيد لذلك الانجاز، كما يرجع جزء أساسي آخر منه إلى الحركة النقابية العمالية خصوصاً لعمال البترول.

ولكن علينا أن نتذكر أنّ تأميم النفط لم ينهِ البنية الاقتصادية الريعية المعتمدة على مورد أحادي، ولم يلغِ الارتباط التبعي لاقتصادنا بالنظام الرأسمالي العالمي، الذي لا يزال يؤدي وظيفة متخلفة في إطار التقسيم الدولي للعمل تتمثل في تصدير النفط الخام، مع كل ما يتهدد الموارد النفطية من مخاطر النضوب بفعل الاستنزاف بعد أكثر من 75 سنة على بدء تصديره، أو جراء ما يمكن أن يسمى «النضوب التقني» في حال إنتاج طاقة بديلة بكلفة مناسبة، ناهيك عن تذبذب أسعار النفط وما تنجم عنه من أزمات.

المجتمع الكويتي خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الوراء:
في السنوات الستين من عمر الدولة الكويتية الحديثة شهد مجتمعنا تحولات كبرى، فعلى سبيل المثال نجد أنّه تم تحقيق انجاز ثقافي وتعليمي كبير عبر القضاء على الأمية، التي كانت سائدة، وفرض التعليم الإلزامي إلى نهاية المرحلة المتوسطة، ثم تأسيس الجامعة، ولكن المؤسف أنّ النظام التعليمي في المقابل شهد خلال العقود الأخيرة تراجعات خطيرة تكشفها المؤشرات الدولية المختصة والاختبارات القياسية لمستوى التعليم في بلادنا.

وصحيح أيضاً أنّ الهوية الوطنية الكويتية قد تبلورت وتعمدت بالدم، ولكننا لا يمكن أن نتجاهل في المقابل تلك الاستقطابات الاجتماعية الفئوية والقبلية والطائفية، التي هي من جهة نتاج التخلف الاجتماعي واستمرار تماسك بعض المكونات التقليدية وامتداد تأثيراتها، وهي من جهة أخرى نتاج تراجع مشروع بناء الدولة الحديثة وإضعاف مفهوم المواطنة الدستورية، وما تمثّله هذه الاستقطابات من شعور واهم بالانتماء إلى هذه الهويات الصغرى الفئوية والقبلية والطائفية على حساب الهوية الوطنية الكبرى أو الانتماء الاجتماعي الطبقي، وهذا ما تحاول السلطة وأطراف الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر تكريسه وإعادة إحيائه.

ومن أخطر ما يواجهه المجتمع الكويتي من تحديات حرمان الكويتيين البدون من حقهم في الانتماء والمواطنة، ناهيك عن حرمانهم من حقوقهم الإنسانية والمدنية، ما يفرض ضرورة إقرار حل إنساني عادل ونهائي وقانوني ينهي معاناتهم، ويكوي صفحة هذا الملف المأساوي.

وكذلك فإنه لئن تبلورت خلال العقود الأخيرة سمات الوضع الطبقي في المجتمع الكويتي على نحو أكثر تحديداً، قياساً بما كان عليه قبل ستين عاماً، وذلك على قاعدة اقتصاد رأسمالي ريعي طفيلي تابع، إلا أنّ الملاحظة الأهم هي اتساع الفوارق الطبقية في المجتمع الكويتي وتمركز رأس المال والثروة في أيدي فئة وأسر محدودة، وتوجيه سياسة الإنفاق لصالحها.

لماذا تحولت التنمية من كونها قضية حياة أو موت إلى شعار فارغ؟
أما التنمية في الكويت، التي يفترض أن تكون قضية حياة أو موت، فما أكثر مشروعات خططها الخمسية التي تمت صياغتها خلال الستين عاماً المنقضية منذ تأسيس الدولة الكويتية، وتحديداً منذ التقرير الشهير لبعثة البنك الدولي للإنشاء والتعمير التي زارت الكويت في بداية ستينات القرن العشرين، إلا أن هذه الخطط جميعها بقيت حبراً على ورق أو تم تنفيذ جزء محدود منها، وذلك لسببين رئيسيين، أولهما: انفلات رأس المال الخاص وعدم مبالاته بالمسؤوليات الاجتماعية وعدم مساهمته في هذه البرامج والخطط التي يُنظر إليها على أنها مجرد برمجة زمنية لصرف الميزانيات السنوية، وثانيهما: عدم جدية، والأصح عدم وجود مصلحة طبقية عند كبار المسؤولين في إدارة الدولة لتبني مشروع تنموي بديل عن نهج الاقتصاد الريعي الطفيلي.

المسيرة «الظافرة» للفساد:
لعل الظاهرة الأخطر، التي تشكلت خلال العقود الستة منذ تأسيس الدولة الكويتية الحديثة، تمثلت في تحوّل الفساد من كونه ممارسات فردية أو سلوك تنفيعي إلى نهب منظم لمقدرات الدولة وأموالها العامة، بل أصبح جزءاً من البنية الاقتصادية والسياسية للنظام، وجرى تكريسه ضمن الثقافة الاجتماعية السائدة، التي هي بالأساس ثقافة الطبقة الرأسمالية الطفيلية السائدة، ولم يعد الفاسدون والمفسدون أفراداً معزولين، وإنما أصبحت هناك مافيات وشبكات للفساد لها سطوتها وتغلغلها في معظم المؤسسات ومفاصل القرار، وذلك بالاستفادة المباشرة من النهج السلطوي في التضييق على الحريات، وملاحقة العناصر الإصلاحية، وتمييع رقابة المؤسسات النيابية والمحاسبية والمعنية بمكافحة الفساد وتحويلها إلى واجهات فارغة، وهناك شبكة متداخلة تضم العشرات، بل المئات ممن يتولون المسؤوليات التنفيذية الكبرى في الدولة المنشغلين في عمليات النهب والاختلاسات وليس لديهم أدنى اهتمام للقيام بمسؤولياتهم في إدارة الدولة.

وهنا لن نتجاهل ما جرى اتخاذه في الأشهر الأخيرة من اجراءات معلنة تبدو ايجابية في مكافحة الفساد، ولكن لا يمكن في المقابل تجاهل حقيقة أنّ هذه الاجراءات إنما جاءت بالأساس تحت تأثير ضغط الرأي العام الشعبي، وجراء افتضاح بعض قضايا الفساد في الإعلام الخارجي، ونتيجة تدخل أطراف خارجية في قضايا غسيل الأموال، بالإضافة إلى ما يحدث أحياناً من تصفية حسابات سياسية لإضعاف بعض مراكز النفوذ… كما أنه لا تزال الخشية قائمة من محاولات لفلفة بعض ملفات الفساد، وتكفينا شهادة وزير الديوان الأميري في شأن فضيحة صندوق الجيش مثالاً صارخاً.  

إن المعركة ضد الفساد، ليست معركة إجرائية أو قضائية فحسب، وإنما هي بالأساس معركة سياسية وطبقية كبرى، يجب أن تكون من أولويات النضال من أجل التغيير الوطني والديمقراطي والاجتماعي، إذا أردنا الحفاظ على ما تبقى من الركام المتداعي لمشروع الدولة الكويتية الحديثة.

ختاماً هذه شهادتي كأحد أبناء جيل الاستقلال في ذكراه الستين، وهي بالتأكيد شهادة مجروحة غير محايدة، ولكنها شهادة موضوعية، فلا حياد في المعارك والقضايا الوطنية والديمقراطية والاجتماعية الكبرى، وإنما هناك انحياز إما إلى معسكر الوطن والحريات والناس أو انحياز إلى مصالح ضيقة لقلة ذات نفوذ وسطوة وسلطة ومال.

باختصار، لقد حان الأوان لأن يُعاد الاعتبار لمشروع الدولة الكويتية الحديثة المدنية الديمقراطية العادلة اجتماعياً… وحان الوقت لأن نكون مواطنين أحراراً متساوين نمتلك القرار ونمتلك السيادة.