July 2013
23

قصة ساخرة للزميل عبدالهادي الجميل تحت عنوان "الفريزر".

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم:عبدالهادي الجميل*

ذهبت قبل فترة لمحل أجهزة كهربائية لشراء ثلاجة للبيت، وعندما استقر رأيي على واحدة، طلب مني البائع الجلوس للتأكد من وجودها بالمخزن. طافت عيناي في أرجاء المكان، فرأيت (فريزر) أبيض اللون. تأملته مليّا، وبشكل لا إرادي تحسّست "ثنيّتي" المكسورة بلساني، فعدتُ إلى ذكريات لا تُنسى أبدا.

بعد عودتي وإخوتي من المدرسة في أحد الأيام، ذهبنا كالعادة، إلى المطبخ للسلام على أمّي. في تلك الفترة الجميلة كانت الأمهات لا يذهبن إلى أي مكان سوى للمطبخ أو للمستشفى لإنجاب طفل جديد، ووهناك علاقة وطيدة بين المطبخ المنزلي والمستشفى، فهما يتشابهان في إنتاج الطبخات الرديئة والجيدة!

دخلنا إلى المطبخ، وهناك لاحظنا وجود الفريزر.

تحلّقنا بحماس وصخب حول هدية السماء إلينا، فتركت أمّي قدر الطبخ وأتت لتحول بيننا وبين الفريزر، وهي تلوّح بالمغرفة المعدنية في وجوهنا قائلة:

"وخّروا عن الفريزر، شيل كوعك لا تخفسه، لا تفتحونه ترى يخرب إذا طلعت منّه البرودة، انتوا مو وجه نعمة".

انشغلت أمي بالفريزر وأهملتنا حتى شعرنا بالغيرة الشديدة. ولا نستطيع لومها على ذلك، خصوصا وأن الله قد اختار مطبخها من بين مطابخ كافة نساء الحارة كي يكون أوّل مطبخ يدخل إليه الفريزر.

تعوّدت نساء الحارة على الاجتماع كل مساء في "حوش" بيتنا الخلفي، قبل أن يقررن الجلوس داخل المطبخ بعد وصول الفريزر. هذا التغيير المدبّر كان يثير امتعاض أمّي خوفا على الفريزر من أعين جاراتها اللاتي تخلو مطابخهن من الفريزر، فكانت تجلس وهي تسند ظهرها للفيرزر في مواجهة دلال وحصّة ونورة وسارة وأم زيد.

استغلّت أمي الفريزر في الهيمنة على نساء الحارة، بنفس الطريقة التي استغلت بها الرأسمالية الآلة البخارية للهيمنة على الطبقات الفقيرة بعد الثورة الصناعية قبل 250 سنة. فبسبب وجود الفريزر استطاعت أمي التحكم في مطابخ جاراتها. تحقّق ذلك عندما حوّلت الفريزر إلى ثلاجة مركزية لكل بيوت الحارة، يتم فيه تخزين لحوم ودجاج الجيران. قامت كل جارة بإرسال كيس ورقي كبير الحجم يحتوي على الدجاج واللحم، مكتوب عليه إسم العائلة: آل عبدالكريم، آل حسن، آل زيد إلخ إلخ، مما اضطر أمّي، ضحى كل يوم، لاستقبال جاراتها اللاتي يأتين لطلب بعض "الودام" من الأكياس، فكانت توقفهن في طابور قصير يمتد من باب المطبخ ويتوقف قبل الفريزر بمترين على الأقل، وهي مسافة كافية كي تمنع أعينهن المتلصصة من النظر إلى باطن الفريزر عند فتحه، فكانت تقف بجانب الفريزر وتلتفت إلى جارتها الواقفة على رأس الطابور قائلة:

- "اشتبون اليوم للغداء؟".

دلال: "عطيني من لحم الكتف، بوخالد ودّه يتغدّى مرقة لحم اليوم".

أمي: "انتوا أمس ماكلين لحم، واليوم بعد بتاكلون لحم؟" تطلّع لها أمّي دجاجة وتمدّها لها قائلة: "واجد عليه دجاجة مسلوقة".

وقبل أن تبدأ دلال بالاحتجاج، تنظر أمي إلى المرأة التي تليها وتقول بحزم:NEXT PLEASE

تتقدم أم زيد: "عطيني نصف دجاجة".

أمّي: "كل يوم دجاج، انتوا ما انقرفتوا من الدجاح؟! وهاللحم اللي تارس الفريزر ومثقّل على الكمبرسر، متى بتاكلونه؟"

أم زيد: "اللحم مخلّينه للضيوف".

تطلّع أمي قطعة كبيرة من اللحم وتمدّها لها قائلة: "أي ضيوف؟ صار لنا 30 سنة جيران وما عمرنا شفنا عندكم ضيف واحد لو بالغلط. روحي سوّي لحم لعيالك، ترى الله ما يحب البخل وانا اختك".

لم يقتصر استخدام أمي للفريزر على اللحم والدجاج فقط، بل تجاوز ذلك إلى تثليج البهارات والخبز والسمن، وبعض عبوات اليورانيوم المنضّب. بالإضافة إلى تثليج الطماطم.

حاولنا إقناعها بعدم تثليج الطماطم لكنها لم تعبأ بنا واستمرت في تثليجه، حتى أصبح صلبا ككرات البلياردو، ولم تتوقف عن تلك التقليعة إلّا بعد أن تحوّل الطماطم المثلّج إلى نوع خطير من انواع السلاح الابيض.

كنت وإخوتي في عمر متقارب، مما ساعد على نشوب المشاجرات بيننا، وكنّا ننهيها، ككل الصبية، بالعض وشد الشعر، وغالبا ما تنتهي بلا خسائر تُذكر. ولكن تغيّر ذلك بعد دخول الفريزر إلى بيتنا وظهور سلاح الطماطم المثلّج الذي كان، في بادئ الأمر، يستخدم للردع فقط قبل أن يتحول إلى سلاح فعال لحسم المعركة.

ما أن تسمع أمي أصواتنا تتعالى استعدادا للشجار، و"الحرب أوّلها كلام"، حتى تهتف ببناتها: يالله يا بنات طوّقوا الفريزر، اخوانكم بيتهاوشون. فكانت وأخواتي يضربن طوقا بشريا مشددا حول الفريزر لمنعنا من فتحه واستخدام الطماط المثلج لتصفية الحسابات الشخصية.

في أحد الأيام نشب عراك خاطف وصامت بيني وبين أخي الذي انطلق إلى الفريزر وأخرج حبّة طماطم صلبة حجم 200 جم تقريبا، وأطلقها باتجاهي فأصابت فمي وكسرت" ثنيّتي" العلوية.

اخرجني صوت البائع من ذكرياتي. أعطيته قيمة الثلاجة ثم أشرت باتجاه الفريرز: بكم؟

قال : 120 دينار ، عاوزه ؟

قلت ضاحكا: لا طبعا. لا أريد أبناءً بأسنان مكسورة وذكريات رائعة قد تفسد حاضرهم ومستقبلهم.

_____________________________________________

*عضو في التيار التقدمي الكويتي.