November 2013
25

مثقف المقاهي والصالونات

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم: د.فواز فرحان*

في البداية أحب أن أوضح ألا مشكلة عندي مع المقاهي والصالونات الثقافية لأنها مقاهٍ وصالونات فقط؛ ففي مثل هذه الأماكن تبلورت الأفكار وانطلقت الكثير من حركات التغيير في العالم، ولكن مشكلتي مع حصر النشاط الثقافي الذي يعتبره أصحابه نشاطاً مجتمعياً في مثل هذه الأماكن التي ليست إلا إحدى وسائل التجمع وتداول الأفكار والتي يجب ألا تكون مقبرة لهذه الأفكار. مقالي هذا موجه بالأغلب إلى من انحاز لليسار فكرياً وسياسياً وتبنى مفهوم العدالة الاجتماعية التي تعتبر الاشتراكية هدفها السامي والنبيل والتي لن تكتمل هذه العدالة إلا بها، وسبب تركيزي على اليساريين دون غيرهم في هذا المقال هو أن مناقشة الأفكار الأخرى لها منطلقها ومبحثها المنفصل ولها طريقتها الخاصة في الحوار مع من يتبناها ناهيك عن قناعتي بأن من يحمل لواء التغيير هم اليساريون والتعويل والأمل منصب عليهم في هذه المرحلة التاريخية التي تشهد تحولات وتطورات عالمية وإقليمية ومحلية.

لو انطلقنا من مفهوم المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي للمثقف العضوي فسنجد بأن الفرق بين هذا المثقف وغيره من المثقفين ذوي الأبراج العاجية هو التصاقه بهموم ومشاكل الناس والمجتمع والسعي بما يملك من معرفة لتشخيص الواقع و وضع الحلول لإصلاحه وتغييره؛ فالمثقف العضوي لا يكتفي بترديد ما يمتلكه من معرفة وعلم وثقافة في الدوائر المغلقة بين من يشاطرونه هذه الأفكار ليذهب بعد ذلك كل منهم إلى فراشه لينام ولكنه يسعى باستخدام ما يمتلكه لتفسير مشاكل الناس وأساس هذه المشاكل ويركز على همومهم اليومية وفي نفس الوقت يسعى لوضع الحلول لهذه المشاكل والمخارج من هذه الهموم؛ باختصار هو لسان حال المجتمع الذي ينطق باحتياجاتهم بطريقة علمية وينادي بمطالباتهم بطريقة واقعية ويطالب بالحلول بطريقة منظمة على هيئة مشروع. والمثقف العضوي بهذا التعريف والتوصيف من البديهي أن يكون يسارياً تقدمياً ومن المنطقي أن يكون جزءاً من الطليعة السياسية الواعية التي تقود حركة التغيير من خلال انتظامه في الحزب الذي يمثل مصالح الشريحة الواسعة من المجتمع أو بالتعبير الماركسي الطبقة المستغَلة في المجتمع؛ أي أن هذا المثقف العضوي من المفترض أن يكون مرتبطاً بحركة الجماهير ونضال الشعوب في سبيل التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية.

يكمن التناقض الرئيسي في الحالة الكويتية في وجود نظام دستوري وسياسي منقوص الديمقراطية و وجود سلطة تستخدم هذا النقص لخدمة مشروعها المشيخي الخاص؛ من هذا التحليل ينطلق المثقف العضوي في الكويت وعليه يبني تفسيراته للمشاكل في مختلف مفاصل الدولة ومنه ينطلق لوضع مشروعه النهضوي الساعي للإصلاح والتغيير، ومشروعه النهضوي لا يمكن تسويقه ولا السعي لتطبيقه من غير أن ينتظم هذا المثقف العضوي في عمل منظّم في إطار جماعة سياسية تتبنى هذا المشروع لأن جهده الفردي سيضيع في خضم التناقضات الكثيرة وتعقيدات الظروف السياسية والاجتماعية التي تعكس واقعنا. فلا يمكن لليساري التقدمي المثقف الذي يحمل مشروعاً واضحاً أن يستمر في مشروعه هذا من خلال تعليقات في مواقع التواصل الإجتماعي أو من خلال تدوينات تنتشر بين مجموعة محدودة من القراء أو من خلال التنفيس والفضفضة في إحدى المقاهي أو الصالونات الثقافية التي لن يكون جمهوره فيها سوى من يشاطرونه أفكاره ولكن من غير اتصال وتواصل من الواقع الاجتماعي ومع حركة الشارع الذي تكتنفها الكثير من التفاصيل. وبرأيي أن من يحمل الأفكار اليسارية والتقدمية ويحصرها للتداول فقط في المقاهي والصالونات الاجتماعية قد تخلى عن مسؤوليته تجاه مجتمعه وبالتالي أستطيع تصنيفه بالمنغلق والإنهزامي الذي فشل في المساهمة في نهضة شعبه و وطنه؛ بل سأذهب أبعد من ذلك وأقول بأنه ساهم -من غير تعمد منه- في تحويل هذه الأفكار إلى مجرد (فشة خلق) كما يعبّر الشاميون وبالتالي خدمة مبتغى السلطة في تحجيم هذه الأفكار وإبعادها عن المجتمع. إن اليساري التقدمي الذي ينأى بنفسه عن حركة الجماهير ونضالها لإصلاح وتغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لن يختلف كثيراً التنويريين أو العقلانيين الجدد ليس من باب التحليل ولكن من باب الالتصاق بالجماهير والمساهمة بدفع حركتها إلى الأمام؛ ولن أكون قاسياً إن صنفته بالمتخاذل والمتخلي عن طموحات شعبه وقضاياه المستحقة.

تسعى الطبقات الحاكمة في العالم الرأسمالي عموماً وفي منطقتناً تحديداً إلى تفتيت العمل الجماعي المنظم في صفوف الطبقات العاملة والفئات الشعبية وذلك لتقليص حجم الصراع الطبقي معها وبالتالي إضعاف أي احتمالية لإصلاح وتغيير الواقع الإستغلالي الذي تستفيد منه، ومن ضمن وسائل هذا التفتيت هو تحويل المثقفين العضويين إلى مثقفي بروج عاجية ومقاهٍ وصالونات ثقافية؛ بل إن ضمانة عدم ارتفاع الوعي الطبقي في المجتمع بالنسبة لها هو في مدى تقليص دور هؤلاء المثقفين العضويين في المجتمع. ومن الأساليب الأخرى لهذه الطبقات الحاكمة لعرقلة النضال الجماهيري وحركة التغيير تحويل تركيز المثقفين إلى الأمور التفصيلية والمشاكل الجانبية غير الرئيسية مثل النشاط الحقوقي المنعزل عن النشاط السياسي ونشاط حماية البيئة وكذلك من خلال تحويل الصراع من طبقي معها إلى فئوي وطائفي وبالتالي تركيز المثقفين على تهدئته من غير معالجة سببه الرئيسي والذي يكون طبقياً أصلاً. في الكويت مثلاً تسعى السلطة بكل ما تملك لدعم المجموعات الثقافية -بشكل مباشر أو غير مباشر- لأنها في هذا الدعم تعرقل تحول مثقف المقهى أو الصالون الثقافي إلى مثقف عضوي فاعل في حركة الجمهور؛ وهذا ليس طعناً بهذه المجموعات بقدر ما هو تشخيص لواقعها ودورها الذي قد تكون ليست واعية به.

رسالتي التي أوجهها لكل من يتبنى الخط اليساري التقدمي هي: لا تكن أداة بيد السلطة من غير تعمد منك، كن مثقفاً عضوياً وليس مثقف مقهى أو صالون ثقافي، كن جزءاً فاعلاً من الطليعة السياسية الساعية للإصلاح والتغيير ولا تكن منعزلاً ومنفرداً؛ فالعمل الفردي مصيره إلى اليأس والاضمحلال، هناك خياران: إما العمل الجماعي المنظم، أو تمضية الوقت في المقاهي والصالونات بين شلة من الاصدقاء بعيداً عن العمل المؤثر والالتزام.

-----------------------------------------

*عضو التيار التقدمي الكويتي.