May 2013
8

مرزوق النصف: التعاونيات المالية أفضل منافس للبنوك التجارية.

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

التعاونيات المالية مؤسسات شبيهة بالجمعيات التعاونية في الكويت، ولكن في قطاع البنوك، حيث إنها مملوكة للمودعين فيها، ويتم انتخاب مديري التعاونيات المالية على أساس صوت واحد لكل مودع بغض النظر عن حجم ثروته، كما أن الهدف الأول للتعاونيات المالية خدمة المجتمع وليس تحقيق الربح، وإن كانت، كما التعاونيات الاستهلاكية، تحقق في الواقع ربحاً.

التعاونيات المالية هذه هي موضوع تقرير جديد من منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة العمل متخصصة في متابعة أوضاع العمال في العالم، والتقرير بعنوان «المرونة في زمن الركود: قوة التعاونيات المالية Resilience in a Downturn: The Power of Financial Cooperative»، صادر في أبريل 2013 في 58 صفحة، ومؤلفه د. جونستون بيركل أستاذ السياسة الاجتماعية في جامعة ستريلنغ الأسكتلدنية، وصاحب خبرة 25 عاماً في العمل مع التعاونيات ونشر الأبحاث عنها، وله ثمانية كتب في الموضوع.

والفكرة الرئيسية في التقرير أن التعاونيات المالية أثبتت أنها نموذج ناجح لمؤسسات مالية ذات كفاءة عالية وبعد اجتماعي مفيد، فالتقرير يوثّق بالأرقام كيف نجحت هذه المؤسسات في النجاة، وحتى التوسع خلال الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة منذ عام 2008، وهي أشد أزمة يمر بها النظام الرأسمالي منذ أزمة الكساد العظيم عام 1929.

الفَرقان الأساسيان بين التعاونيات المالية Financial Cooperatives والبنوك التجارية يتعلقان أولاً بالملكية، وثانياً بالهدف، فالبنوك التجارية يملكها ويختار إدارتها المستثمرون، فيمكن لمستثمر مثلاً أن يستحوذ على حصة كبيرة من أسهم بنك تجاري، فيتمكن من التأثير في إدارته حتى لو لم يكن للمستثمر سوى مبلغ إيداع بسيط في البنك الذي يملكه، فالملكية تتحدد بحجم رأس المال المستثمَر في ملكية البنك وليس بكون المستثمِر مودعاً أو عميلاً. أما في التعاونيات المالية، فالملاك هم المودعون، ولا تتفاوت القدرة التصويتية على أساس حجم المال في الحساب، فالقاعدة كما في الديموقراطية السياسية هي شخص/ مودع واحد يعني صوتاً واحداً.

أما الاختلاف الأساسي الثاني، فيتمثل في الهدف من المؤسسة، فالبنوك التجارية هدفها الأساسي الربح، وتحديداً الربح للمستثمرين وليس بالضرورة المودعين. أما التعاونيات المالية، فهدفها الأساسي خدمة المودعين والمجتمع بشكل أوسع، فالتعاونيات المالية توفر قروضاً بفوائد منخفضة نسبياً للمودعين لأن هدفها خدمتهم، مقابل البنوك التجارية التي قد تختار فائدة مرتفعة أكثر لأنها تخدم المستثمر بالدرجة الأولى وليس المقترض، حتى لو كان مودعاً. وقد تصح المقارنة هنا مع الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والمحال التجارية الاستهلاكية، فالتعاونيات الاستهلاكية عادة أسعارها أقل وخدماتها للمناطق أكثر.

تاريخ التعاونيات المالية

كانت بداية التعاونيات المالية في ألمانيا في خمسينات القرن التاسع عشر، على يد شخصين هما هيرمان شولتز وفريدريك رافايسن، كل على حدة، بعد عدد من المحاولات الفاشلة في أنحاء مختلفة من أوروبا، وكان حافز التعاونيات المالية في ألمانيا مساعدة الفقراء بعد مجاعة عامي 1846 و1847، وبتأثير من موجة الثورات الشعبية عام 1848 التي عمّت أوروبا ضد الإقطاع والبورجوازية.

فخلال تلك الفترة، انتخب هيرمان شولتز نائباً في البرلمان البروسي وأشرف على لجنة لاستطلاع أوضاع الفئات العاملة والحرفية، وعندما شهد الأوضاع الصعبة التي تعانيها تلك الفئات أنشأ أول رابطة للتسليف Credit Association عام 1850 لمساعدة الفقراء في تمويل مشاريعهم بجهود تعاونية ومن دون فوائد باهظة.

في الوقت نفسه، كان عمدة قرية في غرب ألمانيا فريدريك رافيسن يجاهد للنهوض بمستوى المعيشة العصيب في قريته، وكان يوزع الخبز والبطاطس على الفقراء، ولكنه استوعب محدودية تلك المساعدات على المدى الطويل، لذلك أنشأ مخبزاً تعاونياً لضمان تمويل ذاتي ومستمر للخبز، ونجح في تخفيض سعر الخبز بنحو %50، وانتقل بعدها لمعالجة ما رآه، كمشكلة الربا، واستغلال حاجة الفقراء لرأس المال، فجمع 300 جنيه إسترليني ليؤسس تعاونية مالية يملكها المزارعون عام 1862.

الأهمية الاقتصادية

إن الأهمية التاريخية للتعاونيات المالية في تلك الفترة، وحتى اليوم، هي أنها تكسر حلقة الفقر التي يعاني منها من لا يملكون رأس المال، فكما يقول التقرير: «ظل الناس فقراء لأنهم يفتقدون رأس المال، وظلوا يفتقدون رأس المال لأنهم فقراء» (ص7)، فالتعاونيات المالية يملكها الفقراء أنفسهم، وهم من يمكن أن يقرضوا شركاءهم في القرية أو البلدة، وبما أنهم يعرفون بعضهم البعض جيداً بسبب صغر الأحياء السكنية، فإنهم أعلم بحاجة بعضهم إلى المال، وقدرتهم على رد الديْن، وبذلك توجد آلية ذاتية للرقابة وضمان الملاءة المالية للتعاونيات، الأمر الذي تفتقر إليه البنوك التجارية الكبيرة التي لا تعرف سوى رؤوس أقلام الوضع المالي للعميل.

انتشار التعاونيات المالية

ومن ألمانيا سرعان ما انتشرت حركة التعاونيات المالية في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، وعام 1900 انتقلت الفكرة الى كندا، وعام 1904 وصلت إلى الهند عبر الحكومة البريطانية، وإلى أقصى الشرق في آسيا، وثم الى أميركا اللاتينية عام 1941 عبر المبشرين الكاثوليك المهتمين بأوضاع الفقراء.

أما انتشار التعاونيات المالية اليوم، فيفوق المتوقع، فوفقا لبيانات للفترة 2012/2010 تنتشر التعاونيات المالية بمختلف أنواعها في نحو 120 دولة، بعدد 54,887 مؤسسة مالية، وتبلغ عضوية هذه المؤسسات (تشمل المودعين) نحو 246.5 مليون شخص، وأصولها نحو 8.9 تريليونات دولار أميركي، وودائعها نحو 5.3 تريليونات دولار أميركي، وحجم قروضها للعملاء نحو 5.3 تريليونات دولار أميركي.

أما من حيث المقارنة مع البنوك التجارية، ففي الفترة نفسها 2010/2012 ومن عينة الـ 120 دولة نفسها، أي نحو %62 دول العالم، حازت التعاونيات المالية على نحو %18 من اجمالي الأصول المصرفية عالميا، ونحو %23 من الايداعات، ونحو %19 من القروض. وفي عينة أصغر من 20 دولة أوروبية، يصبح للتعاونيات المالية نحو %21 من اجمالي الايداعات المصرفية في تلك الدول، ونحو %19 من اجمالي القروض للعملاء، وهذان مؤشران على عدم اقتصار التعاونيات المالية على الاقتصادات الفقيرة أو البدائية.

واذا ركزنا على دولة بعينها تتنشر فيها التعاونيات المالية، مثل فرنسا، فتتضح المفاجأة، وهي أنه في عام 2010 كانت %44.8 من اجمالي الايداعات في قطاع البنوك الفرنسي من نصيب التعاونيات المالية، ولها أيضا %46 من القروض، ويقدّر عدد عملاء التعاونيات المالية في فرنسا بنحو 57 مليون عميل، وخلاصة هذه الأرقام أن التعاونيات المالية مؤسسات اقتصادية اجتماعية لا يستهان بها، حتى في الدول الكبرى.

ايجابيات النموذج

في الفصل الثالث من تقرير «المرونة في زمن الركود: قوة التعاونيات المالية» يعرض د. جونستون بيركل لايجابيات التعاونيات المالية وسلبياتها، وسنعرض من الايجابيات اثنتين، ومن السلبيات اثنتين.

الايجابية الأولى عدم وجود اختلاف في المصالح بين المودعين في التعاونيات المالية وملاكها، ذلك أن المودعين هم الملاك تعريفا، بينما في البنوك التجارية قد تتباين مصالح الملاك مع المودعين، فقد يفضل الملاك مثلا المخاطرة بأموال البنوك بأمل تحقيق عوائد أكبر، خصوصا اذا كان نصيبهم محدودا من الخسارة، والتي يتحملها في هذه الحال العملاء أكثر من غيرهم، خصوصا اذا لم يكن هناك حد أدنى للودائع تضمنه الحكومة، ولعل ذلك ما حدث ويحدث لكثير من البنوك التجارية العالمية منذ أزمة 2008 الاقتصادية العالمية المستمرة، ولم يسلم منها أحد أكبر البنوك الكويتية.

أما الايجابية الثانية، فتتمثل في قدرة التعاونيات المالية على الاقراض بفوائد منخفضة، وتقدير المخاطرة بشكل أفضل، وذلك عائد لكون التعاونيات المالية أكثر معرفة بالأوضاع المالية لعملائها، لأنها أكثر التصاقا بهم وببيئتهم من البنوك التجارية، كما أن المودعين في التعاونيات، والذين لهم صلاحية المشاركة في ادارة التعاونية المالية، يمكنهم توفير معلومات اضافية عن المقترضين، لأن لهم مصلحة ولديهم الفرصة لضمان سداد ايداعاتهم التي سيتم اقراضها. اضافة لكون التعاونية المالية لا تهدف للربح، وبالتالي لا تخضع بشكل قوي لمنافسة السوق من أجل زيادة الربح، وعليه يمكنها القبول بفوائد أقل على القروض، تماما مثلما تخفض الجمعيات التعاونية الاستهلاكية أسعارها بالمقارنة مع المحال التجارية.

السلبيات

أحد أهم سلبيات التعاونيات المالية، هي صعوبة زيادة رأس المال عند الحاجة، ذلك أن رأسمال التعاونية المالية أموال مودعيها وليس المستثمرين، وبالتالي لا تستطيع التعاونيات المالية اصدار أسهم لزيادة رأس المال لغير المودعين، مع ما يشمله ذلك من حقوق ملكية وادارة، والا ناقضت تعريفها القائم على ملكية المودعين فقط، وهو ما يعني أن التعاونيات المالية أقل قدرة على مقاومة الافلاس اذا ما واجهته.

السلبية الأخرى متعلقة بالصعوبة التي تواجهها التعاونيات المالية في اجتذاب الموظفين وتحفيزهم على تطوير المؤسسة، وأحد أسباب ذلك عدم القدرة على اعطاء الموظفين من غير المودعين حصصا اضافية في المؤسسة، بحيث ترتفع قيمة حصصهم كلما زادوا من ربحية المؤسسة، كما يحدث في البنوك التجارية مثلا، وهي مشكلة تعاني منها المؤسسات غير الربحية بشكل عام كالمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية.

الخلاصة

ان التعاونيات المالية تبدو نموذجا مثيرا لمؤسسات مالية ذات كفاءة ادارية، ومفيدة للمجتمع، ومستقرة اقتصاديا، ولعل تلك من أهم الميزات التي يفتقر اليها القطاع المالي في العالم، والذي يعاني من أزمات اقتصادية سببها المخاطرة المبالغ فيها في الاستثمار، وفضائح التحايل على الرقابة، اضافة للمكافآت المالية الفاحشة للمديرين.

وفي الكويت لعل التعاونيات المالية تمثل اضافة لتجربة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في المناطق السكنية، خصوصا من ناحية استغلال أرباح الجمعيات التعاونية لتطوير القطاع المالي، وفي الوقت نفسه خدمة العملاء عبر خدمات مصرفية ذات جودة وتكلفة معقولتين، وخدمة المجتمع، وتعزيز قيم التضامن الاجتماعي، وترسيخ الديموقراطية في الاقتصاد عبر تعزيز المشاركة الشعبية في ادارة القطاع المالي، ليس على أساس الثروة انما على أساس المساواة في حق المشاركة.

بقي أن نقول إن تقرير «المرونة في زمن الركود: قوة التعاونيات المالية» يتناول جوانب لم نغطها في هذا الموضوع، منها أداء التعاونيات المالية وتوسعها خلال أزمة 2008 الاقتصادية العالمية بالأرقام، ولمزيد من الاطلاع فان التقرير متوافر كاملا باللغة الانكليزية ومجانا على موقع منظمة العمل الدولية ilo.org .

مرزوق النصف

باحث اقتصادي

منقول عن جريدة القبس تاريخ 03/05/2013 العدد:14341