ماحدث في البيت الأصفر!
شاهدت، في مكتبة تكوين، مساء الثلاثاء قبل الماضي، عرضا لفيلم Loving Vincent عن حياة الرسام الهولندي ڤنسنت ڤان غوخ(1853-1890).الفيلم اتّبع منهجا استقصائيا يهدف لكشف غموض موت ڤان غوخ الذي مازالت تفاصيله تثير الجدل رغم مرور 130 عاما على موته.أهمل الفيلم قضية مهمة جدا وهي قصة" قطع أذنه"والتي يرى بعض الباحثين أنها قد تكون أدّت إلى موته بعد عام ونصف. ولابد أن أشير هنا إلى أمر غاية في الأهمية قد يفسّر سبب الغموض المحيط بقصة قطع أذنه ثم قصة موته.هناك شح كبير في المعلومات عن تفاصيل حياة ڤنسنت، وخصوصا خلال وجوده في آرلي. وأظن أن السبب يعود لعدم وجود أصدقاء حقيقيين له.فأهالي آرلي تحاشوا تكوين أي نوع من العلاقات معه لسببين:الأول أن ڤنسنت غريب عنهم، ليس لأنه من خارج البلدة فقط بل لأنه من خارج فرنسا.والثاني يعود لغرابة أطواره بسبب حالته النفسية، وهو ما جعل السكان يجتنبونه.ولهذا؛ أصبحت رسائل ڤنسنت ولوحاته هي مصدر المعلومات المتوفر والوحيد، تقريبا، عما حدث خلال آخر عامين قضاهما في آرلي وفي الدنيا.ولعل من حسن الحظ أن ڤنسنت كان يحب الكتابة، فقد كتب خلال حياته ما مجموعه 800 رسالة، أهمها مجموعة الرسائل التي تبادلها مع شقيقه ثيو.وبالمناسبة لولا دعم ثيو وزوجته المادي والمعنوي، ولولا إيمانهما بموهبة ڤنسنت لما عرف العالم أو الفن رساما اسمه ڤنسنت ڤان غوخ.في فبراير 1888م وصل ڤنسنت إلى بلدة آرلي في جنوب فرنسا هاربا من برودة باريس وبيئتها التي لا تتناسب مع شخصيته ورؤيته الفنية الميّالة إلى رسم الطبيعة الريفية بألوانها التي لطالما جذبت الفنانين الإنطباعيين.قضى ڤنسنت، في البداية، عدة أسابيع في بعض الفنادق الرخيصة قبل أن يستأجر منزلا صغيرا أطلق عليه اسم"البيت الأصفر"، وكان حلمه أن يحوّله إلى ملاذ للفنانين يلجؤون إليه ويتبادلون فيه الآراء والخبرات حول كل ما يخص الفن التشكيلي.ولهذا الهدف وجّه الدعوة إلى الفنان بول غوغان الذي سبق لـ ڤنسنت أن التقاه بباريس قبل عدة أشهر وأطلق عليه لقب الأستاذ/السيد اعترافا بأفضليته عليه. لكن غوغان لم يتحمّس لمغادرة باريس لسوء أحواله المادية. هذا الموقف يتفق مع شخصيته العقلانية،آنذاك، بعكس فوضوية ڤنسنت التي دفعته لمواصلة الضغط على صديقه حتى رضخ أخيرا ولكن ليس بالمجان، فقد تعهّد ثيو بدفع مصاريف معيشتهما وإقامتهما معا في آرلي.وفي23 أكتوبر وصل غوغان إلى آرلي وأقام في البيت الأصفر.كان ڤنسنت ينتظر قدوم غوغان بفارغ الصبر، فقد زيّن جدران منزله بالرسومات، كما اشترى سريرا جديدا وضعه إلى جانب سريره في غرفة نومه!انغمس الصديقان في عالم الألوان وسارت الأمور بينهما بشكل هادئ.سأنتهز فرصة الهدوء هذه، لأحكي عن بول غوغان بعض المعلومات التي ستفيدنا في ما نحن بصدده هنا.وُلِد بول غوغان في باريس عام 1848 لأبٍ فرنسي وأمٍ بيروفية(نسبة لبيرو). هجر الدراسة وانضم لسلاح البحرية طمعا في الترحال. عاد إلى باريس عام 1871 وعمل كمضارب في البورصة وتزوج فتاة دانمركية أنجبت له 5 أطفال.في عام 1884 بدأ يهتم بالفن التشكيلي فهجر البورصة وزوجته، وعمل كبائع للأعمال الفنية، وبحكم وظيفته التقى بعدد من الفنانين الذين كانوا يجتمعون في المقاهي ومن بينهم ڤنسنت فان غوخ. وبسبب تأثّره بهم، قرر أن يرسم، فانعزل في منزله لـ 3 أشهر ثم عاد إلى المقهى وهو يحمل لوحته الأولى التي لاقت احتفاءً كبيرا من الفنانين!توطدت علاقة غوغان مع ڤنسنت الذي كان يلقى جفاءً من الفنانين لسوء أطباعه.امتهن غوغان الرسم لكنه بدأ يتخلى عن الانطباعية التي رآها جامدة لا تعبّر عن الانفعالات، وبدا ميالا إلى التعبيرية. وبعد أن عاد من زيارته إلى آرلي نهاية عام 1888م حنّ مجددا إلى حياة الترحال، فغادر فرنسا وقد عزم على الهجرة إلى الأبد، فتنقل بين بعض البلدان ثم ألقى عصا الترحال في جزر تاهيتي القصيّة.وهناك تبرأ من الحضارة الأوروبية التي وجدها تافهة وحقيرة قياسا بحضارات أمم أمريكا اللاتينية. لكنه اضطر للعودة مجددا إلى فرنسا للعلاج من مرض خطير ألمّ به، وعندما تعافى عاد مجددا إلى تاهيتي ليموت عام 1903م بعد أن ترك للعالم لوحات خالدة خصوصا التي رسمها في تاهيتي والتي جعل أسمائها كأسئلة مثل:من أين أتينا؟إلى أين نحن ذاهبون؟ماذا نحن؟متى ستتزوجين؟(اشترتها أسرة الحكم القطرية بـ 300 مليون دولار)..نعود الآن لـ ڤنسنت وضيفه غوغان، وكنا قد تركناهما ينعمان بوقتٍ طيّب مليء بالعمل والهدوء في البيت الأصفر في آرلي.لم يدم الهدوء طويلا، فسرعان ما طغت اختلافاتهما الشخصية والفنية، فغوغان كان منظما ودقيقا في حين كان ڤنسنت فوضويا صاخبا، وهذا الأمر كان نقطة خلاف مستمر بينهما.كما أن غوغان كان يمارس أستاذيته على ڤنسنت وخصوصا أمام الآخرين، فعندما يدور النقاش حول لوحة جديدة لڤنسنت كان يشيد بها وبالتطور الملحوظ الذي طرأ على أسلوبه منذ 23 أكتوبر(تاريخ وصول غوغان إلى آرلي).قال غوغان، فيما بعد، واصفا علاقته بڤنسنت خلال إقامتهما في البيت الأصفر:"أحدنا كان بركانا على وشك الإنفجار، والآخر كان يغلي".وعندما حل الشتاء، تعذّر عليهما الخروج للرسم، فازدادت علاقتهما سوءا. لكن ما فجّر الوضع بينهما، هو أن غوغان، الذي كانت لوحاته قد بدأت تشتهر في باريس، لمّح إلى رغبته بالعودة إلى باريس. كان ذلك خلال شربهما الخمر في إحدى الحانات. تملّك ڤنسنت الغضب، فقذف غوغان بكأس زجاجي، كاد أن يصيب رأسه.شعر غوغان بالخطر فغادر البيت إلى فندق قريب. وفي مساء 23 ديسمبر 1888م كان غوغان يسير في أحد شوارع آرلي، فأحس بأن هناك من يتبعه، وعندما التفت تفاجأ بڤنسنت يهم بالهجوم عليه بموسى حلاقة لكنه تراجع وهرب بعيدا. وفي اليوم التالي سمع غوغان أن ڤنسنت قد قطع أذنه البارحة.كانت تلك رواية غوغان لما حدث. لكن هناك أكثر من رواية للحادثة التي مازالت حتى اليوم نقطة خلاف حقيقية بين العديد من المؤرخين والمتخصصين في سيرة ڤنسنت.فقد صدر في عام 2009 كتاب جديد قام بتأليفه إثنان من المؤرخين الألمان درسا جميع الرسائل والتقارير والشهادات والوثائق المتعلقة بالحادثة، وخلصا إلى أن غوغان هو من قطع أذن ڤنسنت باستخدام سيفه الذي لم يكن يفارقه. ومن المعروف عن غوغان إجادته فنون القتال التي تعلّمها خلال عمله في البحرية.ذكر الكتاب أن غوغان تفاجأ بهجوم ڤنسنت عليه، فجرّد سيفه وهجم على ڤنسنت وأصابه في أذنه اليسرى وقطعها ثم رمى سيفه في نهر الرون القريب. لف ڤنسنت أذنه بقطعة قماش وأعطاها لفتاة تُدعى راشيل أو جابرييل كان على علاقة بها(هناك رواية حول سبب أعطائه أذنه للفتاة ولكن ليس مجالها الآن). أورد الكتاب بعض الشواهد التي تنفي رواية غوغان مثل..كتب ڤنسنت، لأخيه، بعد أن تشافى: لحسن الحظ أن غوغان لم يكن يحمل سلاحا ناريا.وفي رسالة أخرى: لم يشاهد أحد ماحدث ولا شيء يمنعني من صنع قصة تخفي الحقيقة.أما الطبيب الذي عاين الجرح فقد ذكر في تقريره أن الأذن قد قُطِعت بكاملها، وليس جزئيا كما ذكر ڤنسنت. كما أن طريقة قطع الأذن تدل على ضربة سيف.رسم ڤنسنت اسكتشا يُظهر أذنه وكتب عليها كلمة لاتينية لا تُستخدم إلّا في وصف الجروح التي تنجم عن المبارزة بالسيف.كما استبعد الكتاب قيام ڤنسنت بقطع أذنه بنفسه لأن حالته العقلية لم تكن قد وصلت، آنذاك، إلى الحالة التي تجعله يلحق الأذى بنفسه.وسلّط الكتاب الضوء على آخر رسالة كتبها ڤنسنت لغوغان بعد ما حدث وذيّلها بالكلمات التالية: "You are quiet,I will be, too"وتعني: سأصمت مادمتَ صامتا.(انتهت مقتطفاتي من الكتاب).وهنا يظهر السؤال المنطقي الوحيد:لماذا ادّعى ڤنسنت أنه قطع أذنه بنفسه؟مَن شاهد فيلم Loving Vincent سيجد سؤالا مماثلا يتعلّق بواقعة موت ڤنسنت التي اختلف حولها المؤرخون، الأغلبية تراها انتحارا والأقلية تعتقد أنه مات مقتولا على يد شاب ثري مدلل اسمه رينيه كان ومجموعة من أصدقائه يتسكعون مع ڤنسنت ليلا حول نهر الرون.السؤال: لماذا ادّعى ڤنسنت انه حاولالانتحار بإطلاق النار على نفسه؟!أثناء كتابتي لهذا المقال، طفتْ في ذاكرتي نظرية كتبها بعض المؤرخين وكنت قد قرأتها قبل سنوات، وأجدها معقولة ومفيدة للإجابة على السؤال الأول وحينها لن يحتاج السؤال الثاني لإجابة.النظرية تقول أن ڤنسنت كانت له ميول مثلية وكانت واضحة تجاه غوغان، وهذا يفسر ما يلي: سر إصرار ڤنسنت على دعوة غوغان إلى البيت الأصفر إلى درجة أنه طلب من أخيه ثيو أن يتولّى دفع تكاليف معيشة غوغان ليغريه بالمجيء.سبب إقامتهما في غرفة واحدة رغم وجود غرفة أخرى خالية في المنزل!سبب العراك الذي حدث بين الرسّامين لم يكن خلافا شخصيا أو فنيا بل كان نتيجة ثورة غضب عارمة تدل على عاطفة مشبوبة اندلعت في قلب ڤنسنت بعد أن علم بعزم غوغان على هجر البيت الأصفر والرحيل إلى باريس.فور استيقاظ ڤنسنت في المستشفى بعد قطع أذنه، طلب أن يرى غوغان فورا، لكن الأخير رفض ذلك، وغادر فورا إلى باريس بعد قضائه شهرين في آرلي.بناءً على كل ما سبق يصبح إدّعاء ڤنسنت أنه قطع أذنه بنفسه كان بهدف حماية غوغان من العقاب، وهذا أمر مفهوم جدا ومنطقي بين العشٌاق. وهذا ينسحب أيضا على إدعائه بأنه حاول الانتحار كي يحمي رينيه الشاب المدلل الذي يصغره بسنوات كثيرة..السير الذاتية مملة غالبا ولكن الدخول في تفاصيل حياة ڤنسنت ڤان غوخ يشبه الغوص في بحر عميق مليء بالغرائب وفي الحالتين ستحبس أنفاسك.
بقلم عبدالهادي الجميل@AbdulHadiAlgmil