June 2014
24

الاستحواذ على الأراضي في القرن الحادي والعشرين: التراكم عبر انتزاع الملكية الزراعية

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

ترجمة مرزوق النصف، باحث اقتصادي من الكويت، ويتقدم المترجم بالشكر ليوسف الصراف على مساعدته في تدقيق الترجمة.نُشر في مجلة “الثقافة العالمية” العدد 174 يناير- فبراير 2014، صادرة عن “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” في الكويت.تأليف فْرَد ماجدوف، أستاذ متقاعد لعلوم النبات والتربة في جامعة فيرمونت، ومشارك مع جون بيلامي فوستر في تأليف كتاب الأزمة المالية العظيمة The Great Financial Crisis (2009)وكتاب ما على كل ناشط بيئي أن يعرفه بشأن الرأسمالية What Every Environmentalist Needs to Know about Capitalism (2011)، وكلاهما منشوران من قِبَل دار منثلي ريفيو Monthly Review Press.تستند هذه المقالة إلى ملاحظات من عرض قُدم في اللقاء السنوي لرابطة علم الاجتماع الزراعي، في مدينة نيويورك في 7 أغسطس- آب 2013.بات الاستحواذ على الأراضي land grabs متداولا باستمرار في الإعلام، سواء كان مصدره شركات متعددة الجنسية وشركات استثمارية خاصة نابعة من المركز الرأسمالي، أو صناديق سيادية في الشرق الأوسط، أو جهات تابعة للدولة كما في الصين والهند.[1] فعلى سبيل المثال استقال السفير الكولومبي لدى الولايات المتحدة في يوليو- تموز 2013 بسبب مشاركته في جهود مشبوهة قانونيا في مساعدة شركة كارجل Cargill الأمريكية في استخدام شركات ورقيةللسيطرة على 130,000 فدان من الأراضي، والتي كان يفترض استخدامها للإنتاج الزراعي، وهناك أيضا أراضٍ يُستحوذ عليها لأغراض أخرى، كالتعدين وشق الطرق وبناء المباني والسدود. وبالمعنى الإنساني فإن الاستحواذ على الأراضي يعني انتزاع الملكية dispossession من أناس وعائلات حقيقية، وعندما يفقد الناس أراضيهم فإنهم يفقدون كذلك مصدر غذائهم ومجتمعاتهم وثقافاتهم.ويجب وضع ما يحدث اليوم في سياق التطور المستمر للرأسمالية، وليس مقصودا أن يكون ما يلي تاريخا للقرون الثلاثة السابقة، إنما أقرب لاستعراض عام وفق الترتيب التاريخي، حيث ستوضح الأمثلة المحددة على انتزاع ملكية الأراضي من الناس الوسائل المتعددة المستخدمة من قِبَل رأس المال (أو رأس المال الناشئ) والذي أدى إلى تدفق مستمر للناس نحو المدن، ولا تمثل الأمثلة المطروحة أدناه سوى عينة صغيرة عن عمليات انتزاع الملكية التي وقعت ولا تزال حول العالم.فقد كان تسليع commodification الأرض، وهي أبسط مورد من الموارد ومصدر الحياة البرية وأساس الحضارة الإنسانية، جوهريا من أجل تطور الرأسمالية، ومنذ الحقبة الأولى للرأسمالية الحديثة وحتى الحاضر كان أساس انتزاع ملكية الأراضي من الناس هو تسليع الطبيعة، عبر شراء الأراضي (أو الحصول عليها بطرق أخرى) وبيعها، والمضاربة عليها، واستخدامها لإنتاج الغذاء للبشر أو الحيوانات أو إنتاج الألياف أو الوقود، وعبر اختيار المحاصيل على أساس الطقس ونوع التربة، وكذلك على أساس أيها يجذب عائدا أكبر.وعندما نناقش هذه الأحداث دعونا نتذكر كلمات أغنية وودي جاثري Woody Guthrie عن الخارج عن القانون بريتي بوي فلويد Pretty Boy Floyd: “بعضهم يسرقك بمسدس وبعضهم بقلم حبر”،[2] فلقد مثّل انتزاع ملكية الأراضي من الناس خلال الثلاثة قرون الماضية طريقا مهما لتراكم رأس المال، أو كما أسماه البعض تراكم رأس المال عبر انتزاع الملكية capital accumulation by dispossession، واستخدمت في ذلك وسائل عدة من ضمنها القوة (أي “المسدس”)، وكذلك الخداع باستخدام قوانين واتفاقيات عدة أو عبر التزوير الصريح (أي “قلم الحبر”)، وتستخدم الوسيلتان معا أحيانا، وفي أحيان أخرى يفقد المزارعون والفلاحون أراضيهم نتيجة العلاقات الاقتصادية الرأسمالية، عادة عبر الفشل في سوق شديد المنافسة، أو عبر عدم القدرة على دفع الإيجارات التي يدفعها المزارعون الأكبر والأغنى.انتزاع الملكية عبر التسييج: التراكم الأولي والثورة الزراعية البريطانيةاحتاج تطور الرأسمالية لتغييرات عديدة في المجتمع الإقطاعي، فوجب تغيير السلوك تجاه المجتمع والمال والالتزامات تجاه الآخرين، ووجب ادخار المال (رأس المال) بدل مجرد إنفاقه عى الاستهلاك كما العادة في ظل الإقطاع، وأخيرا وجب خلق مجموعة من الناس الذين يتم إجبارهم على بيع عملهم من أجل البقاء على قيد الحياة. وكانت نقطة البداية لهذه التغييرات هي الثورة الزراعية في أوروبا، وخاصة بريطانيا، التي مثّلت أرضية التراكم الأولي primary accumulation الذي وُلدت من رحمه الثورة الصناعية.[3]بحلول عام 1700 حدث أمر جديد في الزراعة الإنجليزية، حيث ارتفعت وتيرة الإنتاج، مما خفّض عدد المجاعات، وبحلول عام 1750 صار لدى إنجلترا فائض من الحبوب يكفي لتصدير 13% من المحاصيل،[4] ومع بداية القرن التاسع عشر بات لديها فائض من إنتاج الحبوب يُعتمد عليه.وبدلا من أن يكون الارتفاع الكبير في إنتاج الغذاء والإنتاجية ثمرة حدث واحد خارق فإنه كان حصيلة عدد من العوامل، مثل استخدام نبات البرسيمفي التدوير والقضاء على سنوات إراحة الأرض، وهي ممارسات روجتها “حركة التطوير Improvement Movement”، وأصل كلمة “تطوير Improve” التي نستخدمها الآن بمعنى التحسين يأتي من كلمة emprouwer الأنجلو- فرنسية، وتعني “تحقيق الربح.”[5]وصار ارتفاع الإنتاجية الزراعية وتغير السلوك نحو الأرض، والذي بات مصدرا للدخل الكبير والمستمر لملاك الأراضي، صار الدافع الذي بدأ عملية التطور الطويل والمستمر للرأسمالية الصناعية، حيث وصفت ألين ميكسنس وودز Ellen Meiksins Woods العلاقة المبكرة بين الزراعة وتطور الرأسمالية في بريطانيا كالتالي:من وجهة نظر ملاك الأراضي المطوِّرين والمزارعين الرأسماليين تم تحرير الأرض من أي… عائق أمام استخدامهم المنتِج والمربح للعقار، فقد كان هناك ضغط متنامٍ بين القرنين السادس عشر والثامن عشر لإلغاء الحقوق التقليدية التي تتعارض مع التراكم الرأسمالي، ويمكن أن يعني ذلك أمورا عدة: فقد يعني منازعة الملكية الاجتماعية للأراضي المشاع common lands وادعاء الملكية الخاصة، أو إلغاء عدة حقوق الاستخدام use-rights للأراضي الخاصة، أو تحدي فترات الحيازة التقليدية التي منحت الكثير من صغار ملاك الأراضي حقوق حيازة الأرض لكن دون عقود ملكية واضحة، وكان ضروريا في جميع هذه الحالات استبدال المفاهيم التقليدية عن الملكية بمفاهيم جديدة رأسمالية، أي الملكية ليس فقط كملكية “خاصة” إنما كملكية حصرية أيضا، أي باستبعاد الأفراد الآخرين والمجتمع، وبإلغاء ضوابط القرى وقيودها على استخدام الأرض، وعبر إلغاء حقوق الاستخدام التقليدية، وهلمجرا.[6]ومع تنفيذ التسييج enclosures وانتزاع الملكية وجد منزوعو الملكية عملا في المصانع الصغيرة في المناطق الريفية ولاحقا في المدن، أو هاجروا للمستعمرات في أمريكا الشمالية وأستراليا وأفريقيا، أو أصبحوا مُعدَمين paupers كما سمي المشردون والفقراء آنذاك، ولا يمكن التشديد كفاية على أهمية دور الهجرة الاستعمارية كقناة للتنفيس، فقد هاجر عشرات الملايين إلى خارج أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.انتزاع الملكية بالقوة: القطن في القرن التاسع عشربنيت أولى المَعامل والمصانع في الثورة الصناعية لغزل القطن ولاحقا نسجه على شكل أقمشة، وكان القطن يُجلب من الهند ولاحقا مصر، لكن سوق القطن توسع كثيرا في منتصف القرن التاسع عشر، وكان جنوب شرق الولايات المتحدة أحد المناطق الكبيرة التي طُوِّرت لخدمة هذا السوق.وانطوى الحصول على الأراضي في مستعمرات القوى الأوروربية (ولاحقا الدول المنبثقة من تلك المستعمرات) بشكل عام على “إزالة” السكان الأصليين ونقلهم لما تسمى “محميات”، و”مناطق قبلية”، و”بانتوستانات bantustans”، وحولت إزالة السكان الأصليين “الأراضي المشاع commons” إلى “أراضٍ مفتوحة” ومتاحة للمستعمرين الأوروبيين، الذين حولوا الأرض إلى ملكية حكومية أو خاصة، وقد وصف وولتر جونسون Walter Johnson العملية من حيث علاقتها بالجنوب الأمريكي والقطن بقوله:مع نهاية ثلاثينات القرن التاسع عشر “أُزيلت” قبائل السيمينول Seminole والكريك Creek وشيكاساو Chickasaw وشوكتاو Choctaw وشيروكي Cherooke جميعها إلى أراضٍ غرب نهر الميسيسيبي، ووفرت أراضيهم المُصادَرة أساسا للقطاع القيادي في الاقتصاد العالمي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.وفي ثلاثينات القرن التاسع عشر أُحصيت مئات الملايين من فدادين الأراضي المغنومة وعُرضت للبيع من قبل الولايات المتحدة، وأطلقت هذه الخصخصة الضخمة للفضاء العام أحد أعظم مراحل الازدهار الاقتصادي على مستوى العالم حتى ذلك الحين، وتدفق رأس المال الاستثماري من بريطانيا والقارة الأوروربية والولايات الشمالية نحو سوق الأراضي.[7]وكان القطن، المنتَج من قبل العبيد المنتَزعين من أراضيهم في أفريقيا للعمل في أراضٍ منتَزعة من قبائل الهنود الحمر، كان المادة الخام الأساسية لمَعامل النسيج التي سيطرت على البلدات شمال غرب إنجلترا وأدت إلى نهوض مانشستر وبلدات المَعامل في مقاطعة لانكشير، كانت هذه هي “الحقبة الذهبية” للمَعامل حيث أصبح العمال، الذين كانوا مزارعين، متوفرين للعمل لقاء أجور زهيدة، وقد لخّص جونسون ببلاغة هذه التطورات قائلا: “هكذا تحولت أراضي الهنود الحمر وعَمَلُ الأمريكان من أصل أفريقي والتمويل الأطلسي والصناعة البريطانية إلى هيمنة عرقية وربح وتنمية اقتصادية على مستوى وطني وعالمي.”[8]وقد تعرضت قبائل جنوب شرق الولايات المتحدة، التي أزيحت بالقوة أثناء التكالب على أراضي القطن في ما يعرف اليوم بولاية أوكلاهوما، تعرضت إلى إزاحة جديدة بوسائل عدة، من ضمنها خداع كبير في أعقاب إقرار تشريع داوز (التخصيص العام) Dawes (General Allotment) Act عام 1887،[9] وكان أحد تبريرات التشريع أن الملكية الخاصة ستساعد الهنود الحمر على التأقلم مع المجتمع والاقتصاد الأمريكيين، لكن بدلا من ذلك أنتج خسائر كبيرة في الأراضي المملوكة للهنود الحمر.انتزاع الملكية بالقوة: استعمار أفريقياكانت أكبر المساحات التي انتُزعت ملكيتها في جنوب الصحراء في أفريقيا، في الدول ذات التعداد الكبير للمزارعين المستعمِرين، خصوصا جنوب أفريقيا وناميبيا (جنوب غرب أفريقيا) وزيمبابوي (جنوب روديسيا) وزامبيا (شمال روديسيا)، فعلى سبيل المثال بدءا من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين استولى المستعمِرون الأوروربيون على حصة كبيرة من أراضي زيمبابوي الزراعية، بحيث امتلك الأوروبيون نحو ثلث الأراضي الزراعية بحلول الاستقلال الرسمي،[10] واستحوذ المستعمِرون البيض في جنوب أفريقيا على نحو 90% من إجمالي الأراضي بحلول ثلاثينات القرن العشرين، وأخذوا أفضل الأراضي الزراعية، وكانت نحو نصف الأراضي في ناميبيا تحت سيطرة البيض عام 1990.[11]واستمر الاستحواذ على الأراضي في المستعمرات خلال القرن العشرين حتى الاستقلال، وانخرطت شركات أمريكية وبريطانية في بعض هذه العمليات، مثل فايرستون Firestone في سعيها خلف مزارع المطاط في ليبيريا بعد استقلالها الرسمي، وبروك بوند Brooke Bond (المملوكة حاليا من يونيليفر Unilever) لإنتاج الشاي في كينيا، وديل مونتي Del Monte لإنتاج الفواكه في كينيا، وانتُزعت بعض الأراضي مع وصول مزيد من المستعمِرين البيض في دول مثل ملاوي وأنجولا وموزامبيق.انتزاع الملكية اقتصاديا: الزراعة الرأسمالية الاحتكارية في الولايات المتحدةمثّل إنتاج الغذاء، أي الزراعة، خلال معظم القرن العشرين استثمارا سيئا للرأسماليين، بسبب قلة أسعار المحاصيل والحيوانات، وعلى الرغم من إمكانية تحقيق أرباح في بعض القطاعات الزراعية إلا أنها أرباح لا يُعتمد عليها، حيث تكون الأسعار في بعض السنوات مرتفعة والمَزارع تعمل بشكل جيد، بينما قد تقود الأسعار المنخفضة في سنوات أخرى نحو الاستدانة.ولم يكن الجزء الأكبر من المال في النظام الزراعي خلال معظم سنوات القرن العشرين مصدره الأرض والزراعة، إنما الصناعات غير الزراعية، حيث مثّلت العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة زمنا اشتد فيه التركز واشتدت السيطرة على هذه الصناعات، وهي المُدخَلات (شاملة البذور والأسمدة والمبيدات والآلات) والمُخرَجات (شراء المنتجات الزراعية وتجارتها) وقطاعات المعالجة النهائية في النظام الزراعي العالمي.على مر هذه الفترة شرعت المَزارع الضخمة وبوتيرة متسارعة في إنتاج المزيد من الغذاء، ليس فقط في الولايات المتحدة بل في أماكن مثل أوروبا والبرازيل والصين، فكِبر حجم المَزارع يساعد في زيادة ربحيتها، وعلى الرغم من أن مميزاتاقتصاديات الحجم economies of scale تُستهلك بسرعة بافتراض نمط ثابت من المعدات، فإن المميزات المالية للحجم الكبير تزداد كلما كبُر حجم المَزارع، فكلما كبرت المزرعة كلما حصل المُزارع على شروط أفضل على جميع المشتريات، وحتى الفوائد على القروض تنخفض كلما كبُر القرض، كما أن سعر بيع السلع الزراعية من المَزارع الأكبر عادة ما يكون أغلى، إضافة إلى تمتع المَزارع الأكبر بالقدرة على استغلال عمال المَزارع بشكل مربح أكثر إن دعت الحاجة. ومع استمرار حجم المعدات وقدرتها الإنتاجية على النمو فإنها تؤدي لارتفاع إنتاجية العمال في المَزارع الكبيرة، وبذلك يصبح من الصعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، على صغار المزارعين الاستمرار في إنتاج سلع أساسية غير متنوعة، كالقمح والذرة وفول الصويا والقطن… إلخ، ما لم تكن لهم وظيفة “مدينية” توفر للأسرة معظم دخلها، وكان هذا الاتجاه العام نحو انتزاع الملكية لأسباب اقتصادية، مع التهام المَزارع الكبيرة للصغيرة، كان مسؤولا عن خسارة ملايين المزارعين الأمريكان في العقود اللاحقة للكساد العظيم. (من المهم ملاحظة نجاح بعض صغار المزارعين خلال هذه الفترة عبر الزراعة لصالح أسواق متخصصة، أو لصالح المطاعم المحلية، أو عبر البيع مباشرة للعامة عبر أسواق الخضار وعبر بيع حصص موسمية عبر المَزارع المدعومة اجتماعيا Community Supported Agricultural Farms (CSAs).)وقد جعل منتجوا لحوم الدجاج والخنازير ذوي أساليب الإنتاج العمودية المتكاملة وكبيرة الحجم، والذين انتَزعوا ملكيات عشرات الآلاف من المزارعين الأمريكان، أولئك قد جعلوا كلمة “المزرعة الصناعية factory farm” فعلا ذات معنى، فبدلا من العديد من المزارعين المستقلين نشهد الآن “المُزارع” المتعاقد الذي يربي الخنازير والدجاج في منشآت كبيرة للشركة المنتجة، وأصبح هذا الشخص وفقا لريتشارد ليفونتون Richard Lewontin:نموذجا للعامل “بالقطعة putting out” الذي كان من خصائص المراحل الأولى من الإنتاج الرأسمالي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وما جناه المُزارع مقابل التحول إلى عامل في خط إنتاج هو مصدر دخل أكثر استقرارا، و]قد كان[ التحول في موقع المُزارع هو من المنتج المستقل الذي يبيع في سوق بمشترين عدة إلى بروليتاري فاقد للاختيارات.[12]انتزاع الملكية اقتصاديا: اتفاقات التجارة النيوليبراليةفُرضت شروط شاقة على مزارعي الدول التي وقعت على اتفاقات طوعا (المكسيك واتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية North American Free Trade Agreement, NAFTA) أو أُجبرت على قبول “الإصلاحات الهيكيلية Structural Adjustments” لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي (جامايكا وهايتي)، وذلك كجزء من سعي رأس المال لفتح دول الجنوب لتسهيل الاستغلال.خفضت هذه الاتفاقات الجمارك على الأغذية المستوردة، وكانت النتيجة عدم قدرة الملايين من صغار مزارعي الذرة في المكسيك وتقريبا جميع مزارعي جامايكا ومعظم مزارعي الرز في هايتي على المنافسة مع الأسعار المتدنية للأغذية المستوردة، حتى توقفوا عن الزراعة، وقد وُصف التدمير شبه الكامل للزراعة الجمايكية في الفلم الوثائقي الحياة والديْن Life and Debt عام 2001.[13]وفي عام 1994 فرض بيل كلينتون Bill Clinton على هايتي قبول برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقابل السماح بعودة الرئيس المخلوع جون- بيرتراند أريستيد Jean-Bertrand Aristide للرئاسة، وعام 2010 عبّر كلينتون، الذي بات مبعوث الأمم المتحدة الخاص لهايتي للمساعدة في التعافي من الزلزال، عبّر عن ندمه على ما قام به، فقال للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي: “لربما كان ذلك مفيدا لبعض مُزارعيَّ في أركنسا، لكنه لم ينجح، لقد كان خطأ… واضطررت للعيش يوميا مع نتائج فقدان القدرة على إنتاج غلة من الرز في هايتي لإطعام الناس، وكل ذلك تسببت به أنا دون غيري.”[14]ونشرت صحيفة النيويورك تايمز New York Times مؤخرا تقريرا عن المشاكل التي تعاني منها جامايكا وهايتي ودول كاريبية أخرى جراء التكاليف العالية لاستيراد القدر الأكبر من غذائهم: “منذ عام 1991 حتى عام 2001 ارتفع إجمالي واردات جامايكا من الغذاء والمشروبات مرتين ونصف، لتبلغ 503 مليون دولار قبل التضاعف بعد ذلك، وتوافق قدر كبير من النمو الأولي مع الفوائض الزراعية حول العالم وتغيُّر الأذواق… وقلص الكثير من مزارعي البلد البالغ عددهم 200,000 إنتاجهم في التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين بسبب صعوبة المنافسة،”[15] ويصف التقرير بعض الإجراءات التي تقوم بها جامايكا وهايتي لاستعادة إنتاجهما الغذائي، لكن لا ذكر على الإطلاق لسبب هذه الكارثة.الاستحواذ على الأراضي في القرن الحادي والعشرين: التراكم عبر انتزاع الملكية الزراعيةلقد ساهمت عدة عوامل في موجة الاستحواذ على الأراضي في القرن الحادي والعشرين، وتشمل:اتفاقات تجارة دولية جديدة تميل لمصالح رأس المال المعولم (منظمة التجارة العالمية WTO، اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA، إلخ).فتح دول العالم الجنوبية للاستثمار الأجنبي المباشر.[16]تزايد هيمنة التمويل financialization على مستوى عالمي والمضاربة المتركزتين في الدول الغنية.ارتفاع أسعار السلع الغذائية مع ازدياد مواسم الجفاف والفياضانات التي تخفض الغذاء المنتَج في منطقة ما، مما يضر بشكل خاص تلك الدول التي تحتاج لاستيراد كميات كبيرة من الغذاء، حيث أدت أزمة الغذاء العالمية عام 2008 وما بعدها لإخافة الدول المستوردة للغذاء. الرغبة الأمريكية والأوروبية في الحصول على ما يسمى وقود حيوي “أخضر” كبديل عن الوقود المسال التقليدي، مما ينعش سوق الذرة (لصناعة الإثانول) وفول الصويا وزيت النخيل (لصناعة الديزل الحيوي).استنفاد مخزونات المياه الجوفية في طبقات المناطق الزراعية المهمة، مع ضخ المياه بوتيرة تفوق وتيرة ما يعوضه المطر.وأدت هذه العوامل، جنبا إلى جنب مع عدم استقرار حيازات الفلاحين في كثير من الدول وانتشار الفساد، أدت إلى حركة سريعة وكبيرة لرأس المال الأجنبي للسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، خاصة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، إما عبر الشراء المباشر أو بالإيجار طويل الأمد وإزاحة الفلاحين من الأرض، إضافة إلى ذلك ففي بعض الدول مثل كولومبيا والبرازيل يستثمر رأس المال المحلي بكثرة في شراء الأراضي وتطوير مشاريع زراعية كبيرة.وما حدث خلال العقد الماضي، خصوصا منذ أزمة الغذاء العالمية عام 2008، يختلف بشكل واضح في كثير من الجوانب عن الحقب الأولى لانتزاع الملكية، حيث تحدث العملية الآن أسرع وبوقت متزامن في عدة دول، معظمها دول في جنوب العالم، فتوجد اليوم صناديق سيادية لدول مثل السعودية والإمارات والصين تفتقد أراضٍ كافية أو مصادر مياه يُعتمد عليها لزراعة غذاء يكفي لإطعام سكانها، ولا يريدون الاستناد إلى نتائج “السوق الحر” لتوفير حاجاتهم من الواردات، فقد أوضحت الأسعار المرتفعة في عام 2008 إمكانية وجود مشكلات مستقبلية في الحصول على الغذاء المطلوب من السوق العالمي. إضافة إلى ذلك يعتقد مستثمرو رؤوس الأموال، خصوصا من أوروبا والولايات المتحدة، أن بإمكانهم التربح عبر زراعة الغذاء أو الوقود الحيوي أو الانخراط في أنواع أخرى من المشاريع الزراعية في السوق العالمي، وعامل جانبي آخر هو شراء الأفراد الأغنياء ومنظمات حماية الطبيعة من دول الشمال لأراضٍ كبيرة في دول الجنوب لـ “حمايتها”، لكن ذلك يتم على حساب فقدان السكان المحليين للأرض أو تقييد استخدامهم لها.وقد شرحت شركة أبحاث واستثمار تنتج تقارير للعملاء ومقرها بريطانيا، وهي شركة هاردمان وشركاه Hardman & Co.، شرحت سبب كون الأرض والمنتجات الزراعية استثمارت مثيرة بالقول:لقد باتت تسمى انتزاع الأراضي الجديد، والتكالب على الذهب الزراعي، وهي حكاية معروفة تتعلق بتسونامي صغير من أموال ساخنة تطارد فئة من الأصول التي صارت فجأة جذابة… مؤدية إلى اندفاع نحو الزراعة من قِبَل صناديق التحوّط ومديري محافظ الأسهم… وهو الاكتشاف الأخير لسلعة لا تزال لها قيمة. لكننا نعتقد بوجود قدر إضافي ومعتبر من الزخم خلف هذه الموجة، فهي ليست مجرد حكاية استثمارية، بل إن إعادة اكتشاف أهمية الأصول الزراعية يكشف القضايا الحقيقية التي تواجه البشرية من حيث الأمن الغذائي في زمن النمو السكاني الكبير وازدياد الرخاء والتمدين والتغير المناخي… وتثبت الأراضي الزراعية أنها فئة استثمارية قوية بذاتها، ونعتقد بشكل متزايد أن انتباه المستثمرين سيتركز على الخبرات الضرورية في العلم والمعدات والإدارة، والتي يمكن أن تجعل الأرض تنتج ما لا يمكن للبشرية أن تعيش دونه، أي الغذاء.[17]وتعج المنطقة بمجملها بالمضارابات الممولة من قبل الثروات العابرة للحدود في حقبة هيمنة القطاع المالي، حيث يقول مايكل بوري Michael Burry وهو شخصية مهمة ورئيس صندوق تحوط (قصته محكية في كتاب مايكل لويس Michael Lewis بعنوان The Big Short: Inside the Doomsday Machine): “ستكون الأرض الزراعية المنتِجة والتي تحوي مصادر مياه، ثمينة للغاية في المستقبل، وقد استثمرْت قدرا كبيرا من المال في ذلك.” وليست مثل هذه الاستثمارات المضاربية موجهة بالضرورة للإنتاج الآني، بل إنها توفر مواقع لعدة شركات وصناديق استثمارية للارتباط بموارد المياه والأرض والمعادن والموارد الهيدروكربونية،[18] وفي الواقع بما أن إنتاج الغذاء يتطلب الكثير من المياه فإن “الاستحواذ على الأراضي” في جنوب العالم متعلق بالمياه بقدر ما هو متعلق بالأرض نفسها.[19]تسمى أفريقيا أحيانا، المستهدفة في كثير من عمليات الاستحواذ على الأراضي، بـ “تخوم الأراضي الزراعية the last agricultural frontier” بسبب المساحات الشاسعة “غير المستغَلة” أو غير المستنفَذة، وبسبب انخفاض المحاصيل الزراعية التي ينتجها فلاحوها، وحجم القارة أكبر مما يتصور الكثيرون، فهي أكبر من مجموع مساحة الولايات المتحدة والصين والهند واليابان وأوروبا القارية (شاملة غربها وشرقها) والمملكة المتحدة، موفرة بذلك مساحة شاسعة تسمح بنمو امبريالية جديدة للاستحواذ على الأراضي، إضافة إلى ذلك فإن 10% فقط من الأراضي لها صكوك ملكية قانونية، ففي كينيا وجنوب أفريقيا وناميبيا وزيمبابوي فقط توجد أراضٍ كبيرة مملوكة ملكية خاصة، وهي أراضٍ مملوكة في الماضي، وفي كثير من الأحيان في الحاضر، من قِبَل المستعمِرين البيض والمتحدرين منهم، وتعتبر معظم أراضي أفريقيا أراضٍ مملوكة للدولة، وعند الاعتراف بالحقوق التقليدية فإنها عادة ما تشمل المنازل ومحيطها المباشر فقط.ومن الصعب الحصول على أرقام دقيقة حول حجم الأراضي في جنوب العالم والخاضعة لسيطرة رأس المال الخاص الأجنبي والمحلي والصناديق السيادية الأجنبية، فأحيانا لا تُستكمل المشاريع التي يُعلن عنها وفي كثير من الأحيان تكون الأراضي المستخدمة أقل من الحد الأعلى المتفق عليه، لكن اعتبارا من مايو-أيار 2012 تقدَّر الأراضي الزراعية في العالم والتي أُخضعت للسيطرة الأجنبية بما بين 32 إلى 82 مليون هكتار (ما بين نحو 80 إلى 200 مليون فدان)، مع ازدياد مستمر في الحجم.[20] وأكثر التقديرات شمولا عن الاستحواذ على الأراضي هي تلك المتوفرة من لاند ميتركس Land Matrix، والتي توفر بيانات على مستوى الدولة حول الأراضي المستملَكة لصالح مصادر أجنبية والتي تؤثر على المجتمعات المحلية والمحاصيل المزروعة وعلى الدولة “المستحوِذة”،[21] ووفقا لهذه البيانات تقع أكثر الدول تأثرا بالاستحواذ على الأراضي في أفريقيا وجنوب شرق آسيا (انظر الجدول 1)، وتضم قائمة أكبر 10 دول مستثمِرة، إلى جانب الدول المعروفة، ماليزيا وجنوب السودان اللتان أنفسهما تمثلان أهدافا للاستحواذ على الأراضي،[22] لكن عادة ما يساعد أو يهيمن رأس المال من الشمال على تلك العمليات، فعلى سبيل المثال يشمل مشروع سايم داربي Sime Darby لزراعة زيت النخيل في ليبيريا رؤوس أموال من المملكة المتحدة وفنلندا وهولندا.الجدول 1. أكثر عشر دول مستهدَفة بالاستحواذ على الأراضي وأكثر عشر استثمارا في الاستحواذ على الأراضي