النظام الرأسمالي ما بعد الكورونا والأطروحات السديدة
يقول المثل: “رب ضارة نافعة”.
جائحة كورونا تقدم دروسا ثمينة إذا استفادت منها البشرية ستخطو خطوات مهمة إلى الأمام في اتجاه إقامة نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي أكثر عدلاً:
1- أول وأهم درس هو أن النظام الرأسمالي قد أفلس على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأيديولوجي والأخلاقي والبيئي:
منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي، أغرق هذا النظام العالم في أزمة اقتصادية مستدامة تتخللها انهيارات مالية واقتصادية تقضي على خيرات هائلة. وأوصل الطبيعة إلى مستوى غير مسبوق من التدمير يهدد الحياة على وجه الأرض بالفناء، وألهب العديد من الحروب في مختلف بقاع العالم ورفع التسلح إلى مستويات خيالية, ويحمل هذا النظام عبء أزمته للشعوب، وخاصة الطبقات العاملة، من خلال تصعيد الاستغلال ونهب الخيرات الطبيعية واقتلاع ملايين الفلاحين من أراضيهم واضطرار الملايين إلى الهجرة من أوطانهم هربا من الحروب والمجاعات والبطالة والتفقير. وكشفت جائحة كورونا أن أكبر الدول الرأسمالية (أمريكا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا بالخصوص)، رغم أمكانياتها الاقتصادية الهائلة، إتسمت سياساتها بالارتباك بسبب وضعها مصلحة الرأسماليين فوق ضرورة انقاد حياة المواطنات والمواطنين. ولذلك تلكأت في تنفيذ الحجر الصحي أو نفذته، بشكل جزئي،وبعد فوات الأوان، ولم توفر، بشكل استباقي، مستلزمات القضاء على الوباء( الكمامات وأجهزة التنفس ومستشفيات وغيرها). وذلك بالرغم من أن تجربة الصين كانت قد أبانت فعالية ونجاعة هذا الإجراءات.
وعمّق وباء كورونا تراجع ثقة شعوب الغرب في الأنظمة السياسية حيث كشف حقيقتها كخادمة للبرجوازية ودكتاتورية ضد الشعوب: فإضافة إلى ما طرحنا أعلاه حول تعاملها مع الجائحة والذي سيؤدي إلى أن أغلب المتضررين منها سيكونون من الفئات الشعبية، وخاصة الأكثر هشاشة، ستمول الاجراءات التي اتخدت بالمال العام عوض ان يتم فرض ضريبة على الثروة ومحاربة التهرب والغش الضريبيين وإلزام الرأسماليين بإرجاع الأموال المهربة نحو الجنات الضريبية.
إن الليبرالية، كأيديولوجيا الرأسمالية، تدعو إلى الاعتماد على السوق لتدبير الاقتصاد وتخلي الدولة عن وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية (أي ترك الرأسمالية تتحرك بكل حرية ودون ضبط) وأن ذلك هو الضمان للاستقرار بل الازدهار. والحال أن حرية السوق هي التي أدت إلى هذه انهيارات المتتالية للرأسمالية وأن الدولة تدخلت، خلافا للوصفات الليبراية، لأنقاد البنوك والاقتصاد من الانهيار وتتدخل اليوم لمواجهة كورونا. هكذا عبرت الليبرالية عن فشلها وكشفت عن حقيقتها كأيديولوجيا، بالمعنى القدحي للكلمة، تهدف إلى زرع الوهم بقدرة نمط الانتاج الرأسمالي على حل تناقضاته العضوية تلقائيا( ما يسمى “اليد الخفية”).
أما الإفلاس الأخلاقي للامبريالية، فحدث ولا حرج:
– هكذا، على سبيل المثال، ترعى الامبريالية الارهاب وتدبر المؤامرات ضد الشعوب والانقلابات وتقرر فرض الحصار والعقوبات ضد الأنظمة التي تواجه هيمنتها والتي تسببت في وفاة ملايين الأشخاص وتكذب، بشكل منهجي، لتغليط مواطنيها ومواطناتها (مثلا الادعاء أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل لتبرير غزوه) وتنكث العهود التي وقعتها (تعامل أمريكا مع الاتفاق النووي مع العراق واتفاق باريس حول البيئة…).
وعرى وباء كورونا الوجه البشع واللا إنساني، بل الاجرامي للامبريالية، الذي تجلى، بالخصوص، في:
– وضع مصلحة الرأسمالية فوق الحق في الحياة، وذلك، إضافة إلى ما سبق ذكره أعلاه، في التلكؤ في معالجة المرضى المسنين.
– غياب تضامن الاتحاد الأوروبي مع الشعوب الأعضاء المتضررة أكثر من الجائحة( إيطاليا وإسبانيا وفرنسا).
– تعامل الرأسمالية الأمريكية باللامبالاة فيما يخص مواجهة الوباء: رفض الحجر الصحي والدعوة إلى استمرار الحياة بشكل شبه عادي رغم العدد المهول من المصابين والوفيات وتهيئ الشعب للقبول بكارثة رهيبة من خلال الترويج لاحتمال موت الملايين.
– استمرار الحصار والعقوبات ضد الشعوب المتحررة من هيمنة الامبريالية (كوبا وإيران وفينزويلا ونيكاراكوا وكوريا الشمالية…). مما يشكل جريمة ضد الإنسانية.
– رفض صندوق النقد الدولي تقديم مساعدة متواضعة لفينزويلا لمواجهة الوباء.
وفي نفس الآن، قدمت كوبا والصين وروسيا مساعدات وطواقم صحية لعدد من الدول.
2- أكدت جائحة كورونا العديد من الأطروحات التي كانت تعتبر متجاوزة:
– الأهمية القصوى للتوفر على اقتصاد ممركز على الذات يوفر السيادة الغذائية والضرورات الأساسية للعيش، وخاصة المواد والتجهيزات والمستشفيات والمختبرات والطواقم الطبية. وتقدم لنا كوبا تجربة رائدة في هذا المجال. وذلك عكس، النموذج الذي ساد في أغلب الدول التابعة بالخصوص والمرتكز إلى تنمية الصادرات على حساب بناء نسيج اقتصادي متماسك موجه، بالأساس، إلى السوق الداخلي.
– الأهمية القصوى لتوفير الخدمات الاجتماعية العمومية للجميع وبالمجان وعدم اعتبارها مجرد سلعة تتداول في السوق.
– أهمية دور الدولة في التصدي للكوارث.
– أهمية التضامن والتعاون بين أفراد الشعب في مواجهة الفردانية والأنانية والجشع الذي تنشره الرأسمالية.
– أهمية التضامن والتعاون والعلاقات الودية بين الشعوب كما فعلت كوبا والصين وروسيا وعكس ممارسة أمريكا والاتحاد الأوروبي.
وخلاصة القول أن جائحة كورونا والأزمات المتتالية للرأسمالية وتدميرها المتسارع للبيئة:
– عرت إفلاس الرأسمالية الامبريالية التي ترتكز على الهيمنة والاستغلال والنهب والحروب والفردانية والجشع والهمجية.
– أعادت الاعتبار لقيم التعاون والتآزر والتضامن وسط الشعوب وبينها.
– طرحت بإلحاح وكضرورة لاستمرار الحياة وليس فقط لتجاوز التناقض الملازم للرأسمالية بين قوى الانتاج التي توفر لها الثورة العلمية والتقنية إمكانيات هائلة للتطور وتلبية حاجيات العيش الكريم للبشرية جمعاء وعلاقات الانتاج التي تراكم الثروة في يد أقلية قليلة من الرأسماليين الكبار، ضرورة بناء نظام اجتماعي واقتصادي ومالي ونقدي وسياسي بديل يرتكز إلى:
– تقرير الشعوب لمصيرها بكل حرية وسيادتها على ثرواتها.
– بناء نظام سياسي واقتصادي ومالي ونقدي دولي يرتكز إلى التعاون والتضامن عوض الهيمنة والنزاعات والحروب.
– نموذج تنموي يضع توفير العيش الكريم للشعوب واحترام البيئة على رأس أولوياته.
إذا كان وعي الشعوب المتنامي بأن مصيرها واحد وأن الرأسمالية أوصلت البشرية والطبيعة إلى الباب المسدود وإذا كان هذا التطور ايجابي وموضوعيا في مصلحة القوى الاشتراكية، فإنه لن يؤدي إلى انهيار الرأسمالية، بل قد يؤدي إلى الفاشية والبربرية في غياب توحيد الطبقات الشعبية تحت قيادة الطبقة العاملة، باعتبارها الطبقة الثورية النقيض للرأسمالية والحاملة للمشروع الاشتراكي، وفي غياب توحيد أحزاب الطبقة العاملة في إطار أممي. وهو ما يتطلب بناء الحزب المستقل للطبقة العاملة والجبهة الشعبية في كل بلد وبناء أممية ماركسية.
وفي هذا الإطار، فإننا نعيش مفارقة خطيرة بين كون أن هذه المهمات أصبحت ملحة وآنية قد يؤدي التأخر في انجازها إلى كوارث لا تعد ولا تحصى وبين أن انجازها قد يبدو بعيد المنال في ظل ضعف وتشتت القوى الماركسية والمناهضة للرأسمالية بشكل عام. لكن التاريخ يعلمنا أنه، في اللحظات المفصلية، تتسارع وتيرة الاحداث وقد تستطيع قوة قليلة العدد، إذا امتلكت التحليل السديد للوضع وتوفرت على استراتيجيا وتكتيكات صائبة وحددت الشعار الملائم وتقدمت، ولو نسبيا، في تحقيق الانصهار بين طلائع الطبقة العاملة والكادحين بشكل عام والمثقفين الثوريين الماركسيين، قد تستطيع تحقيق القطيعة مع الوضع القائم والانطلاق في مسيرة الألف ميل نحو الاشتراكية والشيوعية.