January 2014
27

الإغارة على ثقافات الشعوب

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم: د. حسن مدن*

جرى النظر إلى الآراء التي تحذر من محاكاة الغرب في كل شيء على أنها تنطلق من بواعث محافظة أو حتى رجعية، وتنم عن التعصب وضيق الأفق والانغلاق. وفي الكثير من الحالات فإن هذا صحيح، لكن ليس كل من يذهب إلى هذا الرأي ينطلق من البواعث ذاتها.

بعض الدراسات الفلسفية والفكرية الحديثة التي جرى التعارف على وصفها بدراسات ما بعد الكولونيالية، وجهت عنايتها لدارسة تواريخ الثقافات غير الأوروبية، ملاحظة أن التوسع الأوروبي وإخضاع الأمم والشعوب المختلفة خارج أوروبا للهيمنة الاستعمارية سمحا ﺑ"الإغارة" على التقاليد المعرفية للثقافات الأخرى، وفتح المجال لاختبارات قسرية للثقافة الغربية على بيئات غير أوروبية، بل وتدمير التقاليد التي يمكن أن تكون نداً محتملاً للنموذج الغربي في التنمية والتطور الثقافي.

وترى الدراسات الموجهة لنقض مركزية المركز، والمقصود هنا بالطبع المركز الأوروبي، والغربي عامة، أن العلوم الأفضل للغرب ليست هي بالضرورة الأنسب لبقية العالم، بل تذهب الى ما هو أكثر من ذلك حين ترى أن العلوم الغربية أضحت غير جيدة حتى للغرب نفسه أيضاً، كونها تنتج جهلاً، مخاطره جلية في تهديد الجنس البشري وتدمير الطبيعة، فضلاً عن استهداف تقاليد معرفية أخرى لها قيمتها.

في نطاق ثقافتنا العربية، وفي الثقافة الأفرو- آسيوية عامة يبدو سمير أمين أحد أبرز وأبكر من رفضوا المركزية الأوروبية كمنطلق للبحث والتحليل لضيقها عن الإحاطة بالتاريخ والواقع، وهو لا يقوم بذلك من موقع ردّة الفعل تجاه الغرب، الظالم حقاً، وإنما من موقع العلم، حين يقدم التشخيص التاريخي الملموس الذي يدحض هذا المنطلق أوروبي التمركز.

ثمة من سيقول إن طوفان العولمة اليوم يَهد كل الأسوار والسدود بوجه تدفق نمط الثقافة الغربية، التي تبدو قدراً لا رادّ له، بحيث إنها غيرت حتى مفاهيم سيادة الدول ذاتها، لكن يعيب هذا الرأي، إغفاله مدى رسوخ وقوة التقاليد الثقافية المحلية في البلدان المختلفة، القادرة على إجبار العولمة ذاتها على التكيف معها، لتتشكل الظاهرة التي يسميها البعض المحلية المعولمة.

ويدل نموذجا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق على أنه ليس بوسع حتى القوة العسكرية الباطشة قمع أوجه المقاومة التي تفرزها البيئات المحلية، العصية على تقبل الإملاء الخارجي، حتى لو كان عسكرياً، فالتغيير، وإن حفزته المؤثرات الخارجية، إنما ينبع أساساً من ديناميات التحول الداخلي.

_________________________________________

*الأمين العام السابق للمنبر الديمقراطي التقدمي - البحرين

منقول عن موقع التجديد العربي تاريخ 20/1/2014