الإعلان الختامي للمؤتمر المتوسطي الرابع لأحزاب اليسار
اجتمع في العاصمة اللبنانية بيروت 48 ممثلاً عن 31 حزباً يسارياً من 21 دولة من منطقة المتوسط، بضيافة الحزب الشيوعي اللبناني في الفترة الواقعة بين 29 و31 آذار (مارس) 2019.
لقد أصبحت منطقة البحر المتوسط والمناطق المجاورة ساحة مواجهة مفتوحة مخلفةً الموت والتهجير والدمار والاستغلال المتزايد نتيجة السياسات العدوانية التصعيدية التي تمارسها الدول الامبريالية وحلفاؤها الإقليميون، ونتيجة سياسات الاستغلال الاجتماعي والقمع التي تمارسها الحكومات والأنظمة على شعوب المنطقة كما على الطبيعة فيها. إن الواقع الذي تمرّ به منطقتنا هو أيضاً جزء من الواقع الدولي الجديد الذي تتغيّر فيه التحالفات والاصطفافات مع التراجع المستمر للولايات المتحدة كقطب دولي مهيمن، والانتقال التدريجي نحو تعدد القوى الدولية المؤثّرة في إطار تعدد الأقطاب، وانعكاس ذلك على المستويات الإقليمية ومنها منطقتنا.
لقد عانت الشعوب جنوب وشرق المتوسط من الآثار المدمرة للحروب والاحتلال والصراعات من فلسطين إلى سوريا والعراق وليبيا واليمن وقبرص والصحراء الغربية. ويشكل مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي تروّج له الولايات المتحدة الأميركية مشروعاً للتفتيت مستنداً إلى تصعيد كل أنواع الصراعات المذهبية والأثنية، مستغلاً جرائم وممارسات التنظيمات الإسلامية المتطرفة، لوضع الأسس للتدخّل وإعادة تشكيل الحدود الجيوسياسية لضمان استمرار الشروط الفضلى للهيمنة الأميركية مع حلفائها في حلف "الناتو" على موارد وثروات المنطقة.
إن التطور الأخطر مؤخراً هو مشروع "صفقة القرن" التي تقترحها الإدارة الأميركية من أجل تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء كافة حقوق الشعب الفلسطيني من حقّه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة وحق العودة للاجئين. وفي هذا الإطار، تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف مفهوم "اللاجئ" من أجل إلغاء حق العودة عبر حرمان أولاد الفلسطينيين من تصنيف اللاجئ ما سيؤدي إلى إلغاء حق العودة وتخفيض عدد الفلسطينيين المشمولين بهذا الحق من عدة ملايين إلى بضعة عشرات الآلاف من المسنّين. وفي الوقت نفسه، يؤدي قرار الولايات المتحدة بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) المسؤولة عن دعم اللاجئين الفلسطينيين، إلى إعاقة عملها وحرمان الشعب الفلسطيني في المخيمات من حقوقهم الأساسية في الصحة والتعليم، ويشكّل مكوناً إضافياً في سياق ضرب حق العودة وتوطينهم خاصةً في بلدان الجوار. ويستمر العدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين حيث تتوسع مستوطناتها وحصارها وهجماتها على قطاع غزة مستفيدةً من الدعم الكامل من قبل حلفائها في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو. ويشكل قرار "يهودية الدولة" خطوة خطيرة باتجاه حرمان المواطنين العرب من حقوقهم وتهدد مستقبلهم ووجودهم عبر موجات جديدة من التهجير القسري خارج أراضيهم. ويشكل القرار حلقةً أخرى من سياسات التمييز والأبارتهايد الذي تمارسه ضد الفلسطينيين وتذكّرنا بسياسات التطهير العرقي التي حصلت في الماضي القريب. تدين الأحزاب الحاضرة بعمق وبشدّة، وترفض الدعم المستمر الذي توفرّه الولايات المتحدة وحلفائها والأنظمة التابعة لها لهذا القانون، وللخطوات المكمّلة التي اتخذتها لناحية نقل السفارات إلى مدينة القدس وهو ما يشكّل انقضاضاً على ما تبقى من حقوق للشعب الفلسطيني.
وتدين أحزاب اليسار في منطقة المتوسط كل أشكال الاعتداءات والحروب والاحتلال والعقوبات التي تمارسها الولايات المتحدة و"إسرائيل" وتركيا ضد كل شعوب المنطقة. كما تدعو الأحزاب إلى وقف فوريّ للحرب ضد اليمن، والاحتلال التركي لشمال سوريا وشمال قبرص. ويدين المجتمعون استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية، ويعبرون عن ادانتهم الشديدة لقرار الإدارة الأميركية الأخير بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، والتمهيد لقرارات مماثلة حول الضفة الغربية. كما ندين القمع الممنهج للحريات العامة في تركيا، والسياسات القمعية التي تمارسها ضد الشعب الكردي وسجن قادة أحزاب المعارضة ومنها قادة حزب الشعوب الديمقراطي. وتدعم أحزاب اليسار حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، وحق العودة لجميع اللاجئين. كما ندعم حق شعوب المنطقة في مقاومة الاحتلال والاعتداءات، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وتدعم الأحزاب الحل السياسي للأزمة السورية الذي يضمن الحقوق السياسية لكل شعبها بمن فيهم الأكراد، في إطار دولة علمانية ديمقراطية وانسحاب كل قوى الاحتلال والتدخل منها، ورفع العقوبات وإعادة الإعمار وتسريع عودة اللاجئين. كما يدعم المشاركون حلاً للقضية القبرصية بحسب الاتفاقيات الموقّعة وقرارات الأمم المتحدة، يقوم على دولة فدرالية من منطقتين لشعبين من أجل توحيد البلاد وانسحاب قوات الاحتلال التركية منها، وإنهاء عسكرتها. وتدعم الأحزاب التوصل إلى حل سياسي متفق عليه يضمن حق تقرير المصير للصحراء الغربية وإقامة استفتاء عليه على الأسس التي وضعتها قرارات الأمم المتحدة. كما تدين الأحزاب المشاركة الاحتلال الاسرائيلي للأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر والخروقات والاعتداءات البرية والجوية والبحرية ومحاولات السيطرة على ثروته النفطية مؤيدة حق الشعب اللبناني في مقاومة الاحتلال ومواجهة التهديدات والضغوط السياسية والاقتصادية.
لقد أدت الأجندة النيوليبرالية للقوى الرأسمالية في شمال وجنوب المتوسط إلى زيادة الاستغلال الطبقي والبطالة والجوع والفقر عند شعوب المتوسط. كما وضعت اتفاقيات التجارة الحرة والخصخصة وسياسات حكومات المنطقة الهادفة إلى حماية الأرباح اللامحدودة لرأس المال ضغوطاً هائلة على المكاسب الاجتماعية وحقوق الطبقة العاملة في المنطقة. هذا الجشع في ربحية القطاع الخاص يؤدي إلى تعميق استغلال الطبيعة والموارد الطبيعية وطرق نقلها في المنطقة، وهو ما يسبب الحروب والصراعات والتدمير العميق للبيئة. هذا الاستغلال المفرط للإنسان كما للطبيعة ينبع من أسس النظام الرأسمالي نفسه. وتستمر القوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي بفرض سياساتها على كافة شعوب القارة ممن أجل حماية رأس المال والمصارف ومحاولة حل أزماتها البنيوية المرتبط بالدين والعجز على حساب الشعوب الأوروبية. إنّ ردّ أحزاب اليسار سيكون عبر استمرار المواجهة ضد الرأسمالية من أجل البديل الاشتراكي الذي يعمل في خدمة الطبقات المستغَلّة والشعوب كما في خدمة الطبيعة، وفي مواجهة نهج التطرف اليميني بأشكاله المختلفة.
تستمر الهجرة بالتزايد بسبب هذ الحروب في المنطقة وفي القارة الأفريقية، كما بسبب الفقر والجوع، وتداعيات التغيرات المناخية المرتبطة بالاحتباس الحراري على الزراعة والمياه. إن تداعيات الرأسمالية والامبريالية تتجلى بوضوح في موجات الهجرة من الجنوب إلى الشمال. ويموت في البحر المتوسط الآلاف من اللاجئين سنوياً ما يحوّله إلى مقبرة جماعية سببها سياسات الهجرة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي واستخدام دول الجنوب كحارس للحدود البحرية، وسياسات عسكرة دول المنطقة التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو. إنّ صعود اليمين المتطرف والقوى الفاشية الجديدة في أوروبا بالاستناد على الخطاب العنصري والخوف من الآخر تشكّل نتائج لهذه السياسات تحديداً.
إن الرأسمالية تشكّل خطراً وجودياً اليوم على الكوكب بأسره، إذ يؤدي الاستغلال المفرط للطبيعة، ونمط الحياة الاستهلاكي القائم، إلى مستويات هائلة من التلوث في الهواء والمياه والغذاء، ما يؤدي إلى ارتفاع المخاطر الصحية على المواطنين. كما إلى الاحتباس الحراري الذي يرفع من درجة حرارة الأرض ويؤدي إلى ظواهر مناخية متطرفة، صار يهدّد مستقبل الحياة البشرية على المدى الأبعد. ترى الأحزاب المشاركة أن النضال من أجل بيئة آمنة هو في صلب النضال من أجل مستقبل أفضل للإنسانية، ويتكامل مع النضالات التحررية والاجتماعية والديمقراطية لشعوبنا في المتوسط كما لكل شعوب العالم.
يستمرّ نضال شعوب المنطقة ضد الأنظمة والحكومات الرجعية، وضد الاستغلال والقمع ومصادرة الحقوق الديمقراطية والحريات العامة. وفي هذا الإطار، تستمر شعوب الخليج وجنوب المتوسط في نضالها من أجل التغيير الديمقراطي رغم كل العوائق والصعوبات التي تفرضها عليها أنظمتها.
وتعبر شعوب المنطقة الآن عن معاناتها وألمها بسبب الفقر والاستغلال فتنتفض ضد حكوماتها وأنظمتها من أجل حقوقها. وتشكل انتفاضة الشعب السوداني مثالاً مهماً عن هذه النضالات من أجل الحرية ومن أجل التحرر الوطني والاجتماعي. كما تبرز الحركات الشعبية في لبنان والجزائر والعراق والأردن وتونس والمغرب، وكذلك في فرنسا وغيرها لتشكّل تعبيراً عن فشل السياسات القائمة في مختلف دول هذه المنطقة. تلعب قوى اليسار دوراً مهماً في هذه الانتفاضات، وتحديداً الحزب الشيوعي السوداني الذي يلعب دوراً أساسياً في الانتفاضة الشعبية السودانية.
تعبر أحزاب اليسار عن تضامنها ودعمها لهذه الحراكات الاجتماعية التي تقع في قلب النضال من أجل التقدم والتغيير في المنطقة، ونحيي بشكل أساسي نضالات الشعب السوداني وندعو إلى الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين السياسيين في سجون النظام، ونحذّر من القمع الوحشي لهذه الحراكات التقدمية الشجاعة.
كما ندين النهج القمعي الذي يمارسه النظام في مصر، وعودة حكم العسكر والعمل على تهميش الحريات العامة، وعلى رأسها حق التعبير وحق التنظيم السياسي والنقابي.
نعبّر عن تضامننا ودعمنا للحركات الاجتماعية التي تقع في قلب الصراع من أجل التقدم والتغيير في المنطقة. لطالما كنا في قلب التحركات والاضرابات في 8 آذار يوم المرأة العالمي، الذي كان فعّالاً هذا العام وتحوّل إلى يوم تاريخي في الكثير من الدول. لن تتوقف أحزاب اليسار عن الانخراط في الصراع اليومي من أجل تحرّر النساء وبناء المجتمعات النسويّة القائمة على الحقوق المتساوية لكافة مكوّناتها.
توجد حاجة ملحّة، الآن أكثر من أي وقت مضى، لمراجعة السياسات القائمة وتحديداً اتفاقيات التجارة التي أدت على انهيار اقتصادات دول الجنوب والوقف الفوري لكل مشاريع عسكرة المنطقة، ووضع مصالح وحقوق الطبقة العاملة وحقوق الإنسان فوق مصالح رأس المال والأرباح. هذه الحروب التي تموّلها شركات الأسلحة الدولية تشكّل لها مصدراً للربح أكثر من أي وقت مضى. على اليسار أن يقف دون مساومة من أجل السلام وتوظيف الطاقات من أجل تحقيق مشروعنا البديل. تدعو أحزاب اليسار حكومات شمال المتوسط إلى الوقف الفوري لكل صفقات التسلّح والتدريب التي تدعم من خلالها الاحتلال الإسرائيلي او أنظمة المنطقة التي تستخدمها في الحروب البينية والداخلية التدميرية والقمعية، وإلى جعل المتوسط منطقة خالية تماماً من السلاح النووي.
إن أمن واستقرار العالم لا يمكن أن يتحقق إلاّ بمواجهة طموحات التوسع والسيطرة الإمبريالية، وآخرها الهجمة المتجددة على دول وشعوب أميركا اللاتينية وعلى رأسها فنزويلا. وتعبر أحزاب اللقاء عن رفضها لمحاولات تغيير النظام بالقوة من قبل الولايات المتّحدة وحلفائها، ودعمها للشعب الفنزويلي في معركته الوطنية من أجل السيادة الوطنية واستكمال أهداف الثورة البوليفارية.
إنّ التعاون عبر المتوسط يجب أن يبنى على مصالح الشعوب وليس مصالح رأس المال ويجب أن يرتكز على قيم المساواة والمصالح المشتركة والعلمانية وحقوق الإنسان والملكية الاجتماعية للموارد الطبيعة ووسائل الإنتاج. على أحزاب اليسار أن تستمر في عملها المشترك لتعميق التعاون بين كوادرها ونقاباتها ومنظماتها الاجتماعية لتحقيق أهدافنا ومصالحنا المشتركة في مواجهة قوى الاحتلال والاستغلال.