April 2012
17

دروس من الإصلاح التعليمي في الولايات المتحدة

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

كتب: الزميل مرزوق النصف

في الولايات المتحدة نقاش عام مستمر حول إصلاح التعليم، وبالتحديد التعليم ما قبل الجامعي، هذا النقاش لا يقتصر على المختصين والساسة بل يتم تداوله أيضا في الصحف والتلفزيون، ما يحفز النقاش هو علامات تدل على تخلف مخرجات التعليم الأميركي مقارنة مع الدول الأخرى، وكذلك تراجع الأداء الاقتصادي الأميركي مؤخرا والذي يرجعه البعض لضعف النظام التعليمي وعدم إنتاجه لقوة عمل قادرة على المنافسة في الاقتصاد العالمي.

بعض الشواهد على مشاكل التعليم الأميركي هي نتائج دراسة أجريت في 2007 على طلبة الصف الرابع (العمر 9 سنوات) والتي أظهرت أن 33% من الطلبة فقط استوعبوا بشكل كامل المناهج التي دُرسّت لهم، بينما 33% لم يصلوا لأدنى مستوى مطلوب من استيعاب المناهج للانتقال للمستوى الدراسي التالي (ص103)، أي أنهم في عداد الراسبين، كما أنه بالمقارنة مع باقي دول العالم فإن متوسط أداء الطلبة الأميركان منذ السبعينات هو في أغلب الأحيان ضمن الأسوأ، وفي أفضل الأحوال لا يتعدى المتوسط (ص249).

كتاب مميز

الكتاب موضوع النقاش هنا يحاول تقييم بعض جهود الإصلاح التعليمي التي ابتُكرت لمعالجة المشكلة، والكتاب بعنوان "موت نظام التعليم الأميركي العظيم وحياته: كيف أن الاختبارات والاختيار يقوضان التعليم"، وهو يقع في 288 صفحة وصادر في طبعة مزيدة ومنقحة العام الماضي، أما عن مؤلفة الكتاب فهي الخبيرة في التعليم الدكتورة دايان رافيتش التي تعمل حاليا كأستاذة في مجال التعليم بجامعة نيويورك الأميركية.

ما يميز الكتاب هو أن لمؤلفته خلفية متنوعة تجعل من وجهة نظرها في الإصلاح التعليمي مميزة، فبالإضافة لتخصصها الأكاديمي في شؤون التعليم الأميركي فإنها احتلت مواقع أهلتها لصياغة عدة برامج إصلاحية وتطبيقها، حيث كانت مساعدة ومستشارة لوزير التعليم في إدارة الرئيس بوش الأب وعملت في إدارة الرئيس كلينوتون في الإشراف على تقييم مستويات الطلبة في مجمل الولايات المتحدة، كما أنها شاركت في إعداد عدد من المناهج الدراسية لمستويات دراسية مختلفة على مر السنوات.

بالإضافة إلى ذلك فإن الدكتورة رافيتش تقدم في هذا الكتاب مراجعة لآراء كانت تؤمن بها سابقا وأصبحت ناقدة لها الآن، حيث كانت تؤمن في السابق بالإصلاح التعليمي المستوحى من الخصخصة ومنافسة السوق، وباتت الآن مقتنعة بأن هذا النوع من الإصلاح قد فشل في رفع مستوى التعليم الأميركي على مدى عقدين من الزمن بل وساهم في تدهوره، وكتابها يؤرخ لهذا النوع من الإصلاح التعليمي كما يروي حكاية المؤلفة كداعمة له في البداية والآن كمعارضة له وداعية لوقفه.

الرؤية التجارية

وصفة الإصلاح التعليمي المستوحاة من الخصخصة ومنافسة السوق مفادها أن سبب تخلف التعليم يكمن في كونه قطاعا عاما غير معرّض لمنافسة السوق، هذا يجعل التعليم وبشكل أخص المعلمين غير منتجين لأن لا حافز لهم على العمل ولا عقوبة عليهم إذا ما قصروا في التدريس، هذه النتائج تنعكس في أداء الطلبة الأكاديمي السيء، ولو كان هناك نظام يقيس جودة كل معلم ويقيمه على أساس أدائه كما يحدث في السوق فإن مشكلة التعليم ستُحل، كما لو كانت هناك منافسة للمدارس الحكومية مثلما هناك منافسة بين السلع في السوق لأصبح البقاء للأفضل.

مثل هذه الرؤية التعليمية، والتي يمكن تسميتها بالرؤية التجارية، تقود لحلول عملية منها: أولا الحزم في تقييم أداء المعلمين عن طريق إجراء اختبارات دقيقة ومستمرة للطلبة لقياس كفاءة المعلمين في توصيل المعلومات لهم، ثانيا محاسبة المعلمين بحزم إذا ما أظهرت الاختبارات تقصيرهم، وهو ما قد يستدعي محاربة الجهات التي توفر حماية وظيفية للمعلمين مثل جمعيات المعلمين والاتحادات العمالية، ثالثا خلق بدائل للمدارس الحكومية بحيث تكون هناك منافسة في اجتذاب الطلبة ويكون للأهالي القدرة على اختيار المدرسة الأفضل لأبنائهم تماما كما يختارون أفضل السلع في السوق، هذا يتطلب عدم إلزام الطلبة بارتياد المدارس الموجودة في مناطق سكنهم كما هو الحال في الولايات المتحدة (وفي الكويت)، كما يتطلب تشجيع إنشاء المدارس الخاصة لمنافسة نظيراتها الحكومية.

دفاعا عن المعلمين

الكتاب ينتقد هذه الرؤية التجارية للتعليم والتي شُرع في تطبيقها بشكل واسع في الولايات المتحدة منذ عقد من الزمن على الأقل، والانتقاد مبني على تقييم نتائج هذه الرؤية عبر الاستشهاد بالدراسات الأكاديمية وبالتقارير الحكومية وبالخبرة الشخصية للمؤلفة، وكذلك عبر شرح الأثر السلبي لمثل هذه الرؤية التجارية على أهداف التعليم ودوره في المجتمع.

فمثلا يستخلص الكتاب بعد عرض موسع للأدلة بأن لوم المدارس الحكومية ومعلميها على ضعف مخرجات التعليم الأميركي أمر غير مبرر، فالمؤلفة تؤمن بأنه لا توجد طريقة واضحة وجيدة أصلا لقياس كفاءة المدارس والمعلمين، والاختبارات التي يُخضع لها الطلبة بهدف تقييم كفاءة معلميهم هي غالبا من نوعية الاختيار من متعدد، أي أنها تفترض بأن كل ما يتعلمه الطالب يمكن اختصاره في قدرته على اختيار الجواب الصحيح وليس في المهارات الكتابية أو التفكير النقدي أو القدرة على الإبداع أو السلوك في الفصل، كما أن هذه الاختبارات تكاد تركز حصريا على مادتي الرياضيات والقراءة وهو ما يقلل من أهليتها كمقياس معتبر لأداء الطلبة وكفاءة المعلمين بشكل عام، هذه هي جزئية "الاختبارات" في عنوان الكتاب والتي ترى المؤلفة ضررا في الإفراط في الاعتماد عليها.

أما بشأن محاسبة المعلمين بحزم وضرورة إضعاف الأمان الوظيفي الذي توفره لهم الاتحادات العمالية فإن الكتاب يقدم أدلة ضد هذه الدعوى، فتختصر المؤلفة الأدلة العلمية حول الموضوع بالقول: "لا أحد على حد علمي برهن على ترابط واضح وقاطع بين نسبة المعلمين في الاتحادات العمالية والأداء الأكاديمي سواء إيجابا أو سلبا" (ص175)، أي أن الأمان الوظيفي الذي توفره الاتحادات العمالية للمعلمين لا يؤدي لانخفاض إنتاجيتهم.

لو كان صحيحا بأن الأمان الوظيفي يؤدي لإضعاف الإنتاجية لتوقعنا أن يكون أسوء المعلمين في الأماكن التي يزداد فيها حضور الاتحادات العمالية للمعلمين، لكن في الولايات المتحدة نفسها فإن ولاية ماساتشوستس هي الأفضل من حيث درجات الطلبة مقارنة مع باقي الولايات في الوقت نفسه الذي ينتمي فيه 100% من معلميها لاتحادات عمالية، كذلك على مستوى العالم فإن فنلندا التي ينخرط 100% من معلميها في اتحادات عمالية هي من أفضل دول العالم من حيث درجات الطلبة (ص256).

خطر الخصخصة

لعل أكثر جزئية مثيرة للاهتمام في الكتاب هي النقد الذي يقدمه للفكرة القائلة بضرورة إيجاد بدائل للتعليم الحكومي من أجل تحسين جودته عن طريق المنافسة، حيث تشرح المؤلفة بعض جذور هذه الفكرة في الولايات المتحدة والتي تنبع من حقبة التمييز العنصري في الستينات، حيث أصبحت المدارس الحكومية مكانا لدمج الأعراق بشكل إلزامي، وهو ما دفع العنصريين من البيض لتشجيع إنشاء المدارس الخاصة ليقللوا من احتكاك أبنائهم بباقي الأعراق، أي أن مطالبة بعض الأهالي بحرية اختيار مدارس أبنائهم كانت في الاصل بدافع عنصري وليس رغبة في رفع كفاءة التعليم، وهذه هي جزئية "الاختيار" في عنوان الكتاب وهي الفكرة التي تحذر منها المؤلفة.

كذلك تفسر المؤلفة بعض أسباب ارتفاع متوسط درجات الطلبة في المدارس الخاصة وشبه الخاصة (إدارتها خاصة لكن تمويلها حكومي) مقارنة مع المدارس الحكومية، فأحد الأسباب هو حرص المدراس غير الحكومية على استبعاد الطلبة ذوي الأداء الضعيف أو القادمين من خلفيات عائلية مضطربة، بينما المدارس الحكومية مُلزمة باسقبال جميع الطلبة، وبالتالي يقل متوسط درجات طلبتها بسبب الطلبة ضعيفي الأداء.

بمعنى آخر فإن المدارس الخاصة وشبه الخاصة قد لا تشجع على المساواة الاجتماعية ودمج فئات المجتمع المختلفة بقدر ما تشجع على فرز الطلبة على أساس الخلفية العائلية والطبقية وغيرهما، ولو أردنا ربط هذه الفكرة بالوضع في الكويت لربما لاحظنا بأن بعض المدارس الخاصة هنا قد تشجع على مثل هذا الفرز الاجتماعي خصوصا إذا ما قامت بتصنيف الطلبة واستبعاد بعضهم حتى بدئا من أولى مراحل الدراسة مثل الروضة.

رؤية مغايرة

هناك الكثير من النقاط المثيرة في الكتاب والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا، لكن الفكرة العامة التي تؤمن بها المؤلفة هي أن التعليم رسالة أخلاقية واجتماعية بالدرجة الأولى، فالتعليم رسالة أخلاقية بمعنى أنه من واجب المجتمع أخلاقيا أن يوفر لجميع أبنائه وبناته فرصا جيدة وكذلك متساوية للتعلم والنمو الفكري، والرسالة الاجتماعية هي بأن استقرار المجتمع وتطوره مرتبط بإعطاء جميع فئاته مجالا للتقدم العلمي ولعيش حياة كريمة.

هاتان الرسالتان تناقضان الرؤية التجارية للتعليم التي تتصور أن هدف المدارس هو إنتاج موظفين بحسب حاجة الشركات في الاقتصاد، أي أن يصبح دور المدارس هو "تدريب الطلبة وليس تعليمهم" كما تقول المؤلفة (ص109)، كما أن الاعتماد على المنافسة بين المدارس كما في السوق يقوم بالضرورة على وجود مدارس ناجحة ومدارس أقل نجاحا، فالهدف إذن ليس تحسين جميع المدارس بل فرز أفضلها، وتوثق المؤلفة واقع أن الانضمام إلى هذه المدارس المتميزة ليس متاحا فعليا لجميع الطلبة على قدم المساواة وذلك بغض النظر عن الضمانات القانونية على الورق، وعموما فإن هذه العقلية التنافسية لا تنسجم مع محاولة خلق فرص تعليمية جيدة ومتساوية لجميع الطلبة.

حلول بديلة

بالنسبة للحلول البديلة التي يقدمها الكتاب فيمكن تصنيفها في ثلاثة اقتراحات، أولا اجتذاب المزيد من المعلمين الأكفاء وليس ترهيبهم ليكونوا أكفاء، فظروف العمل والحياة للمعلمين في الولايات المتحدة ليست جاذبة، بل إن 50% من المعلمين يتركون وظائفهم بعد خمسة سنوات من بدء التدريس (ص255)، وهذا دليل على عدم جاذبية وظيفة المعلم.

ثانيا تطوير المناهج بحيث تكون أكثر فائدة وشمولا للمعارف وكذلك تنويع طرق تقييم الطلبة والمدرسين بحيث تكون أكثر مرونة ومصداقية، والهدف هنا هو تربية الطلبة وصقل شخصياتهم ليكونوا مواطنين واعين ومستقيمين وقادرين على المساهمة بفعالية في مجتمعهم، لا أن يكونوا مجرد موظفين متميزين في مهارات العمل لكن دون قيم أخلاقية ودون قدرة على التفكير الحر والإبداع والنقد.

لعل الاقتراح الثالث لتطوير التعليم هو الأهم وهو معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأوسع في المجتمع، فأحد مشاكل التعليم في الولايات المتحدة مثلا هي مشكلة الانقسام العرقي، حيث أن الطلبة من ذوي الأصول الأوروبية والآسيوية أداؤهم مرضي بشكل عام، بينما الطلبة من ذوي البشرات الداكنة والمهاجرين الجدد هم الأضعف أداء.

كما أن هناك انقساما طبقيا في أداء الطلبة، فالطلبة القادمين من أسر غنية أداؤهم أفضل بنسبة معتبرة من الطلبة الأفقر، هذا الانقسام الطبقي يأخذ مناحي جدية إذا استوعبنا حقيقة صادمة وهي أن واحدا من كل خمسة أطفال في الولايات المتحدة يعيش في فقر (ص257)، غني عن القول بأنه من الصعب على الطالب أن ينجح دراسيا إذا كان لا يجد لقمة العيش ولا السكن الملائم، ناهيك عن المشاكل العائلية التي تتضاعف بفعل ضغوط الفقر والتي تؤثر بدورها على نفسية الطالب وإقباله على التعلم.

الخلاصة

على الرغم من هذه الاقتراحات فإن القارئ قد يشعر بأن الحلول التي يقدمها الكتاب عامة جدا وليست عملية مثل الحلول التي ينقدها، وهذا أمر تحاول المؤلفة الدفاع عنه بالتأكيد على أن مشاكل التعليم ليست بسيطة وليس لها حل واحد أو حلول سريعة، بل هي مشاكل تعبر عن تناقضات معينة في المجتمع لا يمكن إصلاح التعليم دون معالجتها، فالمؤلفة تدعو لنقاش عميق وموسع حول أسباب المشاكل الجدية التي يعانيها المجتمع الأميركي مثل الفقر والتمييز العرقي والتي تؤثر تأثيرا أساسيا على مخرجات التعليم الأمريكي.

بشكل عام فإن هذا الكتاب جدير بالقراءة، على الأقل للاطلاع على مثال يدعو للتقدير لمؤلفة تنقد آراءها السابقة بنفسها وبشجاعة وبأسلوب علمي، وهذه ممارسة يمكن للقارئ أن يستفيد منها في مراجعة أفكاره الخاصة وإعادة تقييمها، والكتاب مكتوب خصيصا لغير المختصين في التعليم، وهو يوفر رؤية ناقدة لحلول تعليمية مثل الخصخصة والتي يتم تداولها في الكويت، وبالتالي يمكن الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة في هذا المجال بدل ارتكاب الأخطاء ذاتها.

مرزوق النصف - m.alnusf@gmail.com

الولايات المتحدة، 9 أبريل 2012

ملخص المقال في صحيفة القبس العدد ١٣٩٦٦

http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=786217&date=17042012

صورة لغلاف الكتاب و الصورة للمؤلفة