January 2013
22

د. حسن مدن: قول يندثر وكتابة تتعثر.

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

يدهشنا أنه خلف بساطة الحياة في مجتمعات الخليج ما قبل اكتشاف النفط يكمن غنى طرائق العمل وأدواته ورموز الثقافة الشعبية، من حرف يدوية وموسيقا ورقصات متنوعة تبعاً لتنوع البيئات المختلفة، وكذا الأساطير والحكايات الشعبية والألعاب . ولو توغلنا أكثر في البحث لوجدنا ذلك الاتساق بين مستوى الحياة وطبيعتها وبين هذه الرموز الثقافية وصدقها في التعبير عن ظروف الحياة الصعبة وحالات الحرمان وشظف العيش . أيّ باحث، إذاً، لا تستوقفهُ الشحنة الرمزية الهائلة من الأشواق والعواطف والشجن والشكوى في أغاني الغوص مثلاً، أو في المواويل الشعبية؟وليست هذه الرموز والوسائل بسيطة أو سطحية كما يتراءى لأجيال اليوم . كان غرامشي قد لفت النظر إلى وجود ما أسماه ب “الفلسفة العفوية” في الحس الشعبي المشترك وفي الأمثال الشعبية والأساطير والفولكلور، رغم أنه نبه إلى أنه قد يحدث أن من ينتجون هذه “الفلسفات” أو يتداولونها لا يكونون واعين تماماً لذلك .جاء التعليم وتحديث المجتمع بإرهاصات لقيم ومعايير سلوك وتفكير جديدة، وكان المؤمل لو جرت الأمور في ظروف طبيعية وتدريجية أن يتحقق هذا الانتقال السلس من ثقافة الشفاهة إلى ثقافة الكتابة بطريقة تحفظ الموروثات الشعبية من الاندثار والتلاشي والضياع، لتندغم في ثقافتنا الجديدة لا كمجرد عنصر من عناصرها، وإنما كمتكأ أساسي لها .غير أن هذه الثقافة المكتوبة لم تكد تتوجه نحو إنتاج رموزها الثقافية عبر مجالات الإبداع الجديدة، كالقصيدة الحديثة والقصة القصيرة والمسرح، حتى داهمتنا ثقافة شفاهية من نوع جديد، ليست من إنتاجنا هذه المرة، ولا هي ابنة التفاعل بين إيقاع التطور الاجتماعي وأشكال التعبير الثقافي والفني عنه، ونعني بذلك الثقافة التي يقدمها التلفزيون ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة .حدث هذا في اللحظة التي بالكاد بدأنا فيها بتكوين تقاليد لثقافة مكتوبة، فلم يقدر لهذه التقاليد أن تترسخ وتتطور وتؤثر حتى وجدنا أنفسنا في أتون “ثقافة” الصورة والسماع، وهي، رغم كل الإبهار الذي تقدم به، خالية من العمق والصدق اللذين طبعا ثقافتنا الشعبية الشفوية .البكاء على الأطلال عادة دميمة، فليس المطلوب الحنين إلى ثقافتنا الشعبية التي تسحقها وسائل المعيشة الجديدة، وإنما المطلوب على الأرجح هو إيجاد ديناميكية جديدة تدفع بالمجتمع نحو التأثر المزدوج بالتقاليد التاريخية والبناء المستقبلي حتى لا تصحو ذات يوم على مجتمعات لا هوية لها .د. حسن مدن - أمين عام المنبر الديمقراطي التقدمي -البحرينمنقول عن موقع المنبر الديمقراطي التقدمي - البحرين