April 2019
11

بين زواج فيغارو ومقتل عمليق!

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

زواج فيغارو مسرحية ألفها الكاتب الفرنسي بيير بومارشيه عام 1778م. ومنها استوحى الموسيقار النمساوي موتسارت أوبرا زواج فيغارو.
المسرحية باختصار تحكي عن شاب اسمه فيغارو يعمل خادما لرجل نبيل هو الكونت ألمافيفا. يقرر فيغارو الزواج بحبيبته سوزانا التي تعمل وصيفة أو خادمة عند الكونتيسة روزين زوجة الكونت. وعندما يعلم الكونت بالأمر يقرر استخدام سلطته، كنبيل، في إجبار العروس على النوم معه قبل زفافها، وهو ما يُعرف بـ "حق الليلة الأولى" وهو تشريع كان سائدا في أوربا خلال القرون الوسطى وما قبلها. ويُعتقد أنه ظهر للمرة الأولى في اسكتلندا خلال فترة الحملات الصليبية.
ولعل معظمنا قد شاهد فيلم القلب الشجاع(Braveheart) للممثل ميل غيبسون عن قصة حياة الثائر الأسكتلندي وليم والاس الذي وحّد قبائل اسكتلندا في مواجهة الاحتلال الإنجليزي، وكان حق الليلة الأولى أحد الأسباب المباشرة لتلك الثورة.
تم، في وقت لاحق، تغيير هذا القانون بضغط من زوجات النبلاء اللاتي شعرن بالغيرة على أزواجهن، وجرى استبدال القانون بمبلغ نقدي تدفعه العروس أو ذووها للسيد النبيل مقابل تنازله عن حق الليلة الأولى.
لكن القانون ظل ساريا في أماكن معينة من أوربا مثل روسيا التي لم تلغه إلّا في القرن الـ 19.
وبحكم الفارق الطبقي، لم يكن فيغارو، قادرا على مواجهة الكونت بشكل مباشر، فقرر اللجوء للحيلة التي مكّنته، في نهاية المسرحية، من إنقاذ شرف حبيبته بعد أن نجح في الإيقاع بين الكونت وزوجته لتنتهي المسرحية نهاية شعبية سعيدة.


اعترض النبلاء على المسرحية، فور عرضها، ورأوها مجحفة في حقهم. وبما أنهم المسيطرون على الدولة فقد اعتبروا أن المسرحية تمس ثوابت المجتمع الفرنسي وتهز نظام الدولة وتُفسد عادات وتقاليد أهل فرنسا.
وفي الحقيقة، أظهرت المسرحية أفراد طبقة النبلاء كمجموعة طفيلية تافهة غارقة في الملذات والفساد، يتمتع أفرادها بامتيازات مطلقة لم يبذلوا جهدا في نيلها بل انتقلت إليهم بالوراثة. كما نقلت المسرحية رسائل رمزية لأبناء الشعب مفادها أن بإمكانهم هزيمة النبلاء لأنهم(أبناء الشعب)يفوقون النبلاء ذكاء ونباهة.
لبّا ملك فرنسا لويس الـ 16، طلب حلفائه النبلاء، ومنع عرض المسرحية.
استمر المنع حتى عام 1784م عندما عُرِضت لأول مرة ولقيت أصداءً واسعة في معظم المدن الأوربية وخصوصا باريس التي كانت تتهيأ للثورة المجيدة التي اندلعت بعد 5 أعوام واقتلعت الملك وحلفاءه النبلاء وقساوسة الكنيسة الكاثوليكية.
لم يكن بومارشيه مؤيدا للثورة بل إنه وقف ضدها لسببين، الأول أنه من مناصري النظام الملكي، والسبب الثاني يعود إلى اعتقاده بأن الثورة ستسبب الفوضى والخراب لفرنسا. لكنه كان مؤيدا للإصلاح والحرية والحد من الصلاحيات المطلقة الممنوحة لطبقة النبلاء.
لقي بومارشيه عداوة النبلاء، وفي ذات الوقت، كاد أن يفقد حياته على يد الثوار بعد أن اعتبروه معاديا للثورة!
يوجد في التراث العربي ما يشبه حق الليلة الأولى الأوربي.. فقد ورد في كتاب الكامل في التاريخ لابن أثير قصة طسم وجديس وهما قبيلتان من العرب البائدة، سكنتا نجد في منطقة اسمها"جو" وقد تكون هي بلدة"جو" الحالية القريبة من مدينة الرياض.
فرض ملك قبيلة طسم وإسمه عمليق نفوذه على قبيلة جديس الضعيفة، فسام أبناءها الخسف والذل. وكان أشد ذلك عليهم عندما أجبر كل عروس من جديس على النوم معه قبل زواجها. خضعت جديس لطغيان الملك عمليق لفترة من الزمن حتى حان زواج فتاة اسمها الشموس، كان شقيقها من كبار القبيلة. لكن مكانة أسرتها لم تشفع لها عند عمليق، فنال منها ما ناله ممن سبقنها من بنات القبيلة. وعندما فرغ منها خرجت الشموس إلى أبناء قبيلتها شبه عارية وآثار دماء عفّتها بادية على فخذيها. وعيّرتهم بذلّهم وعارهم قائلة:

أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم…. وأنتم رجال فيكم عدد النملِ

وتصبح تمشي في الدماء عفيرة……جهارا وزفت في النساء إلى بعل

ولو أننا كنا رجالا وكنتم…. نساء لكنا لا نقر بذا الفعل

فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم …. ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل

فللبين خير من مقام على الأذى…. وللموت خير من مقام على الذل

وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه…. فكونوا نساء لا تعاب من الكحلِ

فبُعدا وسحقا للذي ليس دافعا… ويختال يمشي بيننا مشية الفحلِ.

أثارت قصيدة الشموس نخوة الرجال لكنهم سرعان ما تراجعوا لخوفهم من عمليق وقبيلته التي تفوقهم عددا وعتادا. فأشار عليهم أحدهم باستخدام الحيلة للقضاء على عمليق.
اتفقوا على أن يقوم شقيق الشموس بدعوة عمليق وحاشيته إلى وليمة عنده وأوصى رجال قبيلته بدفن سيوفهم في الرمال في مكان الوليمة وأخبرهم بأن ساعة الصفر هي عندما يمد عمليق يده إلى الطعام.
وهذا ما حدث بالفعل، فما أن مد الملك يده إلى الطعام حتى كانت سيوف جديس تجهز عليه وعلى حاشيته.
انتصر رجال جديس لشرفهم وكرامتهم وتخلّصوا، أخيرا، من الذل الذي لحقهم.
غالبا ما يميل الإنسان إلى الظلم أكثر من ميله إلى العدل. وخصوصا عند أصحاب السلطة. فالظلم صنو السلطة. والمتنبي يقول:
والظلم من شيم النفوس وإن تجد.... ذا عفّة فلعلّةٍ لا يظلمُ.
أي أن الإنسان مطبوع على الظلم، إلى درجة أنه إذا امتنع عن ظلم أحد، فإن ذلك لا يعود إلى عفّته ونزاهته بل إلى سبب قاهر منعه كالعجز أو الخوف، أو لظروف معينة لم تساعده في ظلمه.
الثورات تندلع لعدة أسباب مختلفة لكن أوّلها وأشدّها تحريضا هو الظلم. قد يصبر الإنسان على الجوع والجهل والفقر والمصاعب لكنه لا يصبر أبدا على الظلم.
دائما ما يكون الظالم أقوى من المظلوم لكن سبل رد الظلم عديدة ومتاحة، منها المواجهة المباشرة كالتمرد أو الثورة كالثورة الفرنسية، ومنها غير المباشرة كالحيلة والمكيدة كما في مسرحية زواج فيغارو وقصة مقتل الملك الظالم عمليق.
أخبرنا التاريخ بأن الظلم يقع دائما ولكنه لا يدوم أبدا مالم يخضع المظلومون.

بقلم: عبدالهادي الجميل

*لوحات فنية تجسّد "حق الليلة الأولى"يبدو فيها السيد النبيل مع العروس بينما يظهر ذووها في غاية العجز والأسى.