July 2021
16

"أبوستة" بقلم: عبدالهادي الجميل

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

كان الله كريما جدا معي عندما شحّت عليّ الحياة، فقد وهبني إصبعا إضافية في قدمي اليسرى. لم تتحول هذه الهبة إلى نقمة إلّا عندما بدأ الأطفال في التهكم على إصبعي التي كانت تتدلى بجانب الإبهام!أطلقوا عليّ إسم" أبوستة"وعُرفت بذلك الإسم.لم تكن إصبعا حقيقية، فلم يكن بها عظم أو إظفر، ولا يمكن للإنسان أن يدّعي أن لديه إصبعا ما لم تكن بها إظفر. لهذا كانت إصبعي السادسة أقرب للثؤلول الضخم.لم أكن قادرا على إخفاء إصبعي عن الأعين المتلصصة، فثيابي دائما ما تكون قصيرة جدا كما أن الأحذية والجوارب لم تكن قد وصلت إلينا، آنذاك، عندما كنا نعيش بالقرب من بر"العبدلية"في صحراء غرب الكويت.

كنت في السابعة عندما بدأ أبي بإرسالي لرعي الإبل خلال موسم الربيع.أصبحت أمطار الخريف رسالة الله المرعبة لي كي أستعد لفراق أمي وإخوتي لثلاثة أشهر متواصلة. وقد ألتقي بهم، في مطلع الصيف التالي، إذا حالفني الحظ، ونجوت من الذئاب أو قطّاع الطرق أو لدغات العقارب والأفاعي في صحاري"عصيفيرة وجبو الحوار".لم أجد مبررا لقسوة أبي تلك، إلّا رغبته في إقحامي في عالم الرجولة المبكرة وذلك لا يتم إلّا بانتزاعي من حضن أمي التي لم تنجح توسلاتها السنوية الباكية في منعه من إلقائي في فم الصحراء الواسع.

كنت خلال رعيي للإبل أتجنّب أشجار البر القصيرة والطويلة، فقد حذّرتني أمي أنها مساكن"السكون"والأفاعي ذات الأفواه الضخمة القادرة على ابتلاع صبي في السابعة!كما أوصتني بتجنّب العبث بالجحور والغِيران التي تلجأ لها"السعلوة"وهي أنثى شيطانية غزيرة الشعر نتجت عن زواج رجل بـ جنيّة واشتهرت بخطف الأطفال وأكلهم.وصفت لي أمي القبور كي أجتنبها لكنها لم تحذّرني منها واكتفت بأن أوصتني، دون إلحاح، ألّا أطأ عليها ولم تخبرني بما تحتويه!

في أحد الأيام عثرت على قبر منفرد، انتصب، على أحد طرفيه، حجر جرانيتي مستوي السطح.انتزعتُ الحجر الثقيل من مكانه وحرصت على ألا أطأ القبر، انتحيت جانبا ثم جلبت الحمار. وضعت قدمي اليسرى على الحجر وأجبرت الحمار الهزيل على الدعس بحافره الصلب على إصبعي الهلامية. كرّرت المحاولة عدة مرات دون أن ينجح الحمار في مهمّته المعقّدة. وعندما أفلتّه انطلق راكضا، على غير عادته، وكأنه يعبّر عن فرحته بعودته حمارا من جديد بعد أن كاد أن يتحوّل إلى جرّاح! أمضيت الأيام القليلة التالية وأنا أعرج خلال مشيي بسبب الرضّات التي سبّبها حافر الحمار لمشط قدمي الصغير.بعد انقضاء ربيع 1965م قرر أبي أنه قد اكتفى من البداوة وحان الوقت للاستقرار في المدينة التي كان يعرفها جيدا بفضل تجارته بين الكويت ونجد.استقرّينا في عشيش الصيهد بالقرب من قرية"الجهراء"حيث نمت، لأول مرة في حياتي، تحت سقف ثابت!في سبتمبر دخلت الصف الأول بالمدرسة وكان عمري 9 أعوام ونظرا لكوني أعرف بعض الهجاء، الذي كان أبي قد علّمني إياه، فقد تم نقلي فورا إلى الصف الثاني حيث التقيت بـ"فريح"الذي كان قد تزوّج في الصيف الماضي وكان يدخّن سجائر اللف بشراهة وكأنه يستعجل الزمن كي يصبح أبا. كل شيء تغيّر الآن في حياتي، سكني، ملابسي، أكلي، أحلامي ولم يبق من الماضي المؤلم سوى إصبعي السادسة التي أصبحت تسبّب لي حرَجا مضاعفا بسبب تنمّر الأطفال في العشيش والمدرسة.كان أبي، رغم خشونته الظاهرة، يشعر بالألم النفسي الذي أعانيه. وحتى لو تظاهر بعكس ذلك فإنه لا يمكن أن يدّعي عدم ملاحظة عرجي الشديد خلال مشيي المؤلم إلى المدرسة بسبب الحذاء المصنوع من أجل قدم طبيعية تحمل خمسة أصابع فقط.ذهب أبي إلى"شيخ دين"ليستفتيه في بتر الإصبع فقال"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"ثم حذّر أبي، بأشد العبارات، من تغيير خلق الله.ذهب أبي، فيما بعد، لشيخ آخر قال"إذا كانت هذه الإصبع تؤذيه فلا مانع من بترها لأن الله لا يحب الأذى".في صباح أحد الأيام التالية كنت أخضع لعملية جراحية، في مستشفى الصباح، لتخليصي من إصبعي. وعندما فرغ أبي من صلاة العصر أمرني بالاستعداد للعودة إلى الصيهد، لكني لم أتحرك من السرير الليّن. بقيت أنتظر ما سيسفر عنه الجدال المرير الذي حاول خلاله الأطباء إقناع أبي بخطورة إخراجي من المستشفى قبل التئام الجرح الطازج!كان أبي يسفّه آراءهم الطبية ويتجاهل سؤالهم المتكرر عما سيفعله إذا نزفت قدمي أو تلوّثت في العشيش؟بعد نصف ساعة كان أبي، على الرصيف المقابل للمستشفى، يلوّح للسيارات العابرة.توقفت سيارة"وانيت"كان بها بعض الركاب. أشار لي أن

كان الله كريما جدا معي عندما شحّت عليّ الحياة، فقد وهبني إصبعا إضافية في قدمي اليسرى.
لم تتحول هذه الهبة إلى نقمة إلّا عندما بدأ الأطفال في التهكم على إصبعي التي كانت تتدلى بجانب الإبهام!
أطلقوا عليّ إسم" أبوستة"وعُرفت بذلك الإسم.
لم تكن إصبعا حقيقية، فلم يكن بها عظم أو إظفر، ولا يمكن للإنسان أن يدّعي أن لديه إصبعا ما لم تكن بها إظفر. لهذا كانت إصبعي السادسة أقرب للثؤلول الضخم.
لم أكن قادرا على إخفاء إصبعي عن الأعين المتلصصة، فثيابي دائما ما تكون قصيرة جدا كما أن الأحذية والجوارب لم تكن قد وصلت إلينا، آنذاك، عندما كنا نعيش بالقرب من بر"العبدلية"في صحراء غرب الكويت.

كنت في السابعة عندما بدأ أبي بإرسالي لرعي الإبل خلال موسم الربيع.
أصبحت أمطار الخريف رسالة الله المرعبة لي كي أستعد لفراق أمي وإخوتي لثلاثة أشهر متواصلة. وقد ألتقي بهم، في مطلع الصيف التالي، إذا حالفني الحظ، ونجوت من الذئاب أو قطّاع الطرق أو لدغات العقارب والأفاعي في صحاري"عصيفيرة وجبو الحوار".
لم أجد مبررا لقسوة أبي تلك، إلّا رغبته في إقحامي في عالم الرجولة المبكرة وذلك لا يتم إلّا بانتزاعي من حضن أمي التي لم تنجح توسلاتها السنوية الباكية في منعه من إلقائي في فم الصحراء الواسع.
كنت خلال رعيي للإبل أتجنّب أشجار البر القصيرة والطويلة، فقد حذّرتني أمي أنها مساكن"السكون"والأفاعي ذات الأفواه الضخمة القادرة على ابتلاع صبي في السابعة!
كما أوصتني بتجنّب العبث بالجحور والغِيران التي تلجأ لها"السعلوة"وهي أنثى شيطانية غزيرة الشعر نتجت عن زواج رجل بـ جنيّة واشتهرت بخطف الأطفال وأكلهم.
وصفت لي أمي القبور كي أجتنبها لكنها لم تحذّرني منها واكتفت بأن أوصتني، دون إلحاح، ألّا أطأ عليها ولم تخبرني بما تحتويه!

في أحد الأيام عثرت على قبر منفرد، انتصب، على أحد طرفيه، حجر جرانيتي مستوي السطح.
انتزعتُ الحجر الثقيل من مكانه وحرصت على ألا أطأ القبر، انتحيت جانبا ثم جلبت الحمار. وضعت قدمي اليسرى على الحجر وأجبرت الحمار الهزيل على الدعس بحافره الصلب على إصبعي الهلامية. كرّرت المحاولة عدة مرات دون أن ينجح الحمار في مهمّته المعقّدة. وعندما أفلتّه انطلق راكضا، على غير عادته، وكأنه يعبّر عن فرحته بعودته حمارا من جديد بعد أن كاد أن يتحوّل إلى جرّاح!
أمضيت الأيام القليلة التالية وأنا أعرج خلال مشيي بسبب الرضّات التي سبّبها حافر الحمار لمشط قدمي الصغير.
بعد انقضاء ربيع 1965م قرر أبي أنه قد اكتفى من البداوة وحان الوقت للاستقرار في المدينة التي كان يعرفها جيدا بفضل تجارته بين الكويت ونجد.
استقرّينا في عشيش الصيهد بالقرب من قرية"الجهراء"حيث نمت، لأول مرة في حياتي، تحت سقف ثابت!
في سبتمبر دخلت الصف الأول بالمدرسة وكان عمري 9 أعوام ونظرا لكوني أعرف بعض الهجاء، الذي كان أبي قد علّمني إياه، فقد تم نقلي فورا إلى الصف الثاني حيث التقيت بـ"فريح"الذي كان قد تزوّج في الصيف الماضي وكان يدخّن سجائر اللف بشراهة وكأنه يستعجل الزمن كي يصبح أبا.

كل شيء تغيّر الآن في حياتي، سكني، ملابسي، أكلي، أحلامي ولم يبق من الماضي المؤلم سوى إصبعي السادسة التي أصبحت تسبّب لي حرَجا مضاعفا بسبب تنمّر الأطفال في العشيش والمدرسة.
كان أبي، رغم خشونته الظاهرة، يشعر بالألم النفسي الذي أعانيه. وحتى لو تظاهر بعكس ذلك فإنه لا يمكن أن يدّعي عدم ملاحظة عرجي الشديد خلال مشيي المؤلم إلى المدرسة بسبب الحذاء المصنوع من أجل قدم طبيعية تحمل خمسة أصابع فقط.
ذهب أبي إلى"شيخ دين"ليستفتيه في بتر الإصبع فقال"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"ثم حذّر أبي، بأشد العبارات، من تغيير خلق الله.
ذهب أبي، فيما بعد، لشيخ آخر قال"إذا كانت هذه الإصبع تؤذيه فلا مانع من بترها لأن الله لا يحب الأذى".
في صباح أحد الأيام التالية كنت أخضع لعملية جراحية، في مستشفى الصباح، لتخليصي من إصبعي. وعندما فرغ أبي من صلاة العصر أمرني بالاستعداد للعودة إلى الصيهد، لكني لم أتحرك من السرير الليّن. بقيت أنتظر ما سيسفر عنه الجدال المرير الذي حاول خلاله الأطباء إقناع أبي بخطورة إخراجي من المستشفى قبل التئام الجرح الطازج!
كان أبي يسفّه آراءهم الطبية ويتجاهل سؤالهم المتكرر عما سيفعله إذا نزفت قدمي أو تلوّثت في العشيش؟
بعد نصف ساعة كان أبي، على الرصيف المقابل للمستشفى، يلوّح للسيارات العابرة.
توقفت سيارة"وانيت"كان بها بعض الركاب. أشار لي أن أقفز في الحوض الخلفي ثم غاص بجسده الضئيل بين الركاب.
تسّلقت جانب السيارة بصعوبة، ثم استلقيت على أرضية الحوض الصلبة.
شعرت بألم العملية فرفعت قدمي لأراها، فوجدت أن الشاش الأبيض قد أصبح دبقا بسبب الدم النازف.
رغم ذلك شعرت بالارتياح الشديد، فألم فقد الإصبع كان أخف كثيرا من ألمي النفسي بوجودها!
وشكرت الله كثيرا على كرمه عندما منحني الإصبع في عهد الفقر واستعادها منّي في عهد الغنى.

*أهدي هذا النص للصديق"أبوستة"الذي تمتلئ ذاكرته بـ 6 آلاف حكاية تستحق الكتابة.

في الحوض الخلفي ثم غاص بجسده الضئيل بين الركاب.تسّلقت جانب السيارة بصعوبة، ثم استلقيت على أرضية الحوض الصلبة. شعرت بألم العملية فرفعت قدمي لأراها، فوجدت أن الشاش الأبيض قد أصبح دبقا بسبب الدم النازف.رغم ذلك شعرت بالارتياح الشديد، فألم فقد الإصبع كان أخف كثيرا من ألمي النفسي بوجودها!وشكرت الله كثيرا على كرمه عندما منحني الإصبع في عهد الفقر واستعادها منّي في عهد الغنى.*أهدي هذا النص للصديق"أبوستة"الذي تمتلئ ذاكرته بـ 6 آلاف حكاية تستحق الكتابة.