June 2021
17

عشّة الصيهد وأيلول الأسود!

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

بقلم: عبدالهادي الجميل

تعوّد بو خليف وبو قبلان وبو رضيمان، عصر كل يوم، على احتساء القهوة تحت ظل عشّتنا الخشبية الرابضة في الجهة الغربية من الصيهد.
إلى الشمال منها يشمخ المسجد الحديث. وفي مكان غير بعيد منه يقبع دكّان حسين السوري الذي يبيع الخبز وخضار الطبخ وشطائر الجبنة التي تعدّها زوجته.
على تخوم هذا المثلث تتناثر، بلا انتظام، عشيش الجيران والأقارب.

كنا في بدايات أكتوبر من عام 1970م وكان الحر مازال يحاول التشبث في الأرجاء رغم تأهب الصيف للرحيل الذي طال انتظاره.
كنت يافعا وممتلئا بالثورة والأفكار اليسارية بعكس الشيّاب الثلاثة المؤيدين للملكية والمعادين، دون فهم حقيقي، للأنظمة الجمهورية والأفكار اليسارية.
كنت أصب لهم القهوة الشمالية السوداء التي يعدّها أبي بنفسه. فيتعاطونها خلال أحاديثهم المكرّرة والمملّة التي لا تتوقف إلّا عند سماع شارة نشرة أخبار إذاعة”B B C”العربية.
وبعد انتهاء النشرة ينفتح باب النقاش السياسي.

كان بو رضيمان دائم الإنفصال عن الواقع، ويقضي معظم وقته مستغرقا في عالمه الخاص المليء بهموم الحياة وباحتياجات أبنائه الصغار. لم يكن يهتم بما يدور حوله ولا ينتبه للنقاش إلّا إذا لكزه بو قبلان بقدمه الخشنة.

بو قبلان، على عكس بو رضيمان، كان منخرطا ومنغمسا بكل ما يحدث حوله. ورغم امتلاكه القدرة على الاستماع إلّا أنّه كان يفتقد مهارة التحليل المنطقي وبناء رأيه الشخصي المستقل، وهو ما قاده ليصبح شديد الإنقياد لأبي خليف.

بو خليف.. الرقم الصعب في الجلسة والمتحكم بالحوار. قوي الشكيمة وطويل النَفَس. لا يتقبل الرأي الآخر ولا يحترم حرية التعبير. فكان يقمعني بحكم فارق السن الكبير.
كانت لديه بعض الثقافة الضحلة والوعي السياسي المشوّه. لهذا لم يكن يجيد الدفاع العقلاني عن وجهة نظره خلال النقاش. وكانت تلك نقطة ضعفه الوحيدة وكان مدركا لها، فابتكر حيلة ذكية منعني بها من استغلال نقطة ضعفه، فكان يتحدث باستمرار كي لا أستطيع الرد عليه. يتحدث ويتحدث ولا يصمت إلّا عند سماعه صوت قريبه بو مناور وهو يرفع أذان المغرب من المسجد القريب، فيهبُ واقفا ويغادر وهو يتمتم ببعض الأدعية الدينية.
كانت ثقافة بو خليف مستمدة من رئيسه"أبو رمح".

بو رمح رجل أردني وافر الثقافة، يعمل كمراقب على حرّاس المدارس، فكان الإثنان يلتقيان عند مرور بو رمح على مدرسة بو خليف الذي ينتهز الفرصة لينهل من ثقافة بو رمح في التاريخ والأدب القديم والسياسة.
وعندما يجتمع بو خليف ببقية الشيّاب، عصرا، في ظل العشة، يبدأ باستحضار ونقل ما قاله بو رمح ولكن بطريقته الخاصة:
"بو رمح يقول: يوم مات هارون الرشيد تخاونوا وغدانه(أبنائه)، قام الصغير المامون وعدا(وثب وهجم) على اخوه الكبير الأمين وكتله(قتله)، الله يدفع البلا.
بو رمح يقول: ان اهل روسيا حطّوا لهم كلبتن في طيارة وارسلوه للقمر وقامت تنبح تبي جراوته لين ازعجت الركّاب وردّوه لأهله".

في تلك الأيام انتهت حرب أيلول الأسود التي ارتكب خلالها الملك حسين مجازر شنيعة ضد الفدائيين الفلسطينيين في الأردن وهو ما أثار غضب الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية ما عدا الشيّاب الجلوس في ظل عشّة الصيهد حيث ظلّوا وفيين للملك حسين لأنه"شريف من ترثة النبي"كما يصفونه.
حاولتُ تغيير موقفهم المؤيّد للملك حسين دون جدوى، شرحت لهم الظلم الذي وقع على الفلسطينيين وفنّدت لهم، بكل حماس وجديّة، أكاذيب النظام الأردني، ولكنهم كانوا مسحورين بشخصية الملك وطريقته البدوية المميزة في لبس الشماغ الأحمر والعقال الميّال.
كانوا يردّدون عبارات سخيفة روّجت لها البروباغندا الأردنية آنذاك، مثل:
"الملك حسين يسوق الطيارة بنفسه وياخذه الى تسبد(كبد)السما لين ياصل الخضيرا(السماء السابعة)ثمّن(ثم) ينكس(ينحدر)به على الصهاينة واذا شافوها هاويةٍ عليهم مثل النجم، زبنوا الملاجي.
يحلفون اللي شافوه ان طيرانه يفضخ العقل.
حسين ماهو سهل".

لم أستطع احتمال هذه المغالطات السخيفة، فهاجمتهم وهاجمت الملك حسين بعنف وقلت لهم:
الملك حسين ذبح الفلسطينيين ولم يحارب الصهاينة، بل إنه حليف لهم في كل الحروب العربية. قفوا مع الفلسطينيين المظلومين ولا تقفوا مع الملك حسين.
لم يستطع بو خليف الرد لكني لاحظت قدم بو قبلان وهي تمتد باتجاه بو رضيمان الغافل في ملكوته الخاص، ولكزه وعندما انتبه، صرخ به بو خليف:
بو رضيمان… وش تقول في حسين؟
فأخذ بو رضيمان يردد بصوت عال:
"الله لا يحسن على حسين… الله لا يحسن على حسين".
استبشرت بكلامه… أخيرا كسبت حليفا ثوريا في الصيهد.
تعالت صيحات بقية الشيّاب المستنكرة لما قاله:
لا يا بو رضيمان، أدخل على الله، ما يجوز ما يجوز هالكلام.
لكن الرفيق بو رضيمان أكمل دعاءه الثوري:
"إلّا يجوز ونص.. الله لا يحسن عليه.. خبزه بايت وخضرته خربانة وبيضه فاسد وما يبيع على الحساب.
عسى دكانه يطيح عليه وعلى مرته"!

  • قصة حقيقية رواها لي أحد الأصدقاء.