November 2023
19

مقال/ عبدالهادي الجميل يكتب: تلك الرائحة المرّة

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

سمعت صيحة لاهثة آتية من ظلام الدخان الملتهب المنبعث من الغرفة: إمسك.. إمسك.

كنت أتنفس بصعوبة بالغة من وراء غترتي التي لففتها حول وجهي وعقدتها بإحكام من وراء رقبتي ولم أكن أرى ما أمامي لكن صِغر مساحة الصالة سمح لي بتتبع مصدر الصوت وتحسس منبع الحرارة حتى تبيّن لي، عبر باب الغرفة، ضوء ألسنة اللهب التي كانت تصدر زمجرةً مخيفة يتخللها ما يشبه صوت تكسّر الزجاج. مددت ذراعيّ للإمام محاولا تلمّس ما يأمرني الصوت اللاهث بإمساكه، فارتطم شيء رخو ساخن في صدري وسمعت الصوت مجددا ولكن قريبا جدا هذه المرة: طلّعه برّه.

ضممته إلى صدري كي لا يقع مني وأحطته بذراعيّ وكان خفيفا جدا إلى درجة أنني شككت بأنني أحمل شيئا.

اتجهت للخارج دون أن أتبيّن ما أحمله أو ربما لم أرد أن أتبيّنه رغم أنه لا يبعد عن وجهي أكثر من عشرين سنتيمترًا. قطعت الصالة متتبعا صراخ المرأة المتواصل وضوء النهار الآتيين من الباب المؤدي إلى الحوش المكشوف. لم أتعب رغم الحرارة الشديدة والدخان والظلام ورائحة الشواء التي ملأت خياشيمي وتكاد تخنقني.

ما أن خرجت من باب الصالة حتى تلقّفتني المرأة محاولةً انتزاعه مني وكان وراءها امرأة أخرى تجرّها كي تبعدها عني.

نظرتُ إليه لأول مرة وعندما شاهدته جيدا، أدرت ظهري للمرأة كي لا تراه وركضت باتجاه الشارع وكان أثقل ما حملته في حياتي. كان عند الباب الحديدي بعض المتفرجين من الرجال والأولاد، اقتربت منهم مادا ما بين ذراعيّ لهم كي يأخذوه لكن الرجال ابتعدوا مديرين لي ظهورهم فشعرت بأن العالم كله قد أدار ظهره لي. وقفتُ لا أعرف ماذا أفعل، تخنقني رائحة اللحم المشوي وصرخات الأم التي أخذت أوليها ظهري كلما أتت أمامي. كنت أشيح بوجهي جانبا بحثا عن هواء بلا رائحة. حررت يدي اليمنى ونزعت غترتي، المملوءة برائحة الشواء، عن وجهي ورميتها بعيدا وتنفست بعمق فاندفعت الرائحة إلى أعماقي وشعرت بالدوار والرغبة بالاستفراغ، تراجعتُ للوراء وأسندت ظهري للجدار وشعرت بأنني أتحرر من جسدي أخيرا وأخذ كل شيء بالتلاشي:

صراخ المرأة، رائحة الشواء، لون اللحم المشوي المتفسخ، السائل الغريب الذي ينز من الجسد الطفولي إلى ثوبي.

انتبهت إلى شرطي ينتزع الطفل مني ويركض به إلى سيارة الشرطة ويسرع بها مطلقا صفارة الطوارئ.

جلست على الأرض فصرخت بي المرأة وهي ترمي غترتي في حضني: باقي إثنين باقي إثنين.

صرختُ في الناس: وين المطافي؟

جرّتني بيدي لتوقفني وهي تصيح:

باقي إثنين.

عدتُ مجددا إلى الداخل ووضعت غترتي على وجهي.

ما أن دخلت إلى الصالة حتى وجدت الرجل يحمل واحدا. أشار برأسه إلى باب الغرفة قائلا: حطيت الولد الثاني عند الباب.

سرت نحو الباب فوجدته ممددا على الأرض، حملته وخرجت، كان كشقيقه الأول، بلا ملامح، مجرد كتلة لحم مشوي متفسّخ في الجزء الذي أمسكه الرجل ليرفع الطفل. وكان يسيل منه نفس السائل الغريب، لكن هذا الطفل بلا رائحة، فالرائحة أصبحت تنبعث من أنفاسي.

بعد عدة سنوات، شاهدت حادثا على طريق خارجي ومنعزل، فتوقفت لعرض المساعدة على المسعفين فوجدتهم منهمكين في محاولة إنقاذ المصاب الممدد على جانبه الأيسر. ولاحظت أنه ينزف كثيرا من كتفه الأيمن حتى صنع الدم المتجلط بقعة عريضة على الأرض. لم يكن المصاب واعيا فاقترحت عليهم نقله إلى المستشفى استغلالا للوقت، فقال أحدهم وهو يضغط بشدة على الكتف: لا نستطيع نقله إلّا إذا توقف النزيف.

أردت المغادرة فشاهدت على بعد ثلاثة أمتار ذراع المصاب بداخل كم طويل يعود لنفس القميص الذي يرتديه المصاب.

كانت قد بُتِرت كاملة من مفصل الكتف.

سألتهم: عندكم ثلج نحط الذراع فيها عشان ما تتعفن ويتعذر على الأطباء إعادة زرعها لاحقا؟

قالوا: لا.

قلت: اليد بتخيس.

قالوا: أهم شي ننقذ حياة المصاب وما نقدر ننقل الذراع.

قلت: وجود الذراع لا فائدة منها، بآخذها وأسبقكم للمستشفى وأكيد هناك بيحافظون عليها.

وافقوني، فأخذتها ووضعتها في إناء وجدته بجانب المسعفين وركبت سيارتي وقبل أن أغادر تذكرت بأني لا أعرف إلى أي مستشفى سينقلون المصاب.

استدرت بالسيارة ووقفت بجانبهم وسألتهم، فقالوا: مستشفى الأحمدي.

انطلقت بالسيارة وكنت أتفحص الذراع لرؤية ما إذا ظهرت عليها علامات التعفن ولاحظت أن الجرح المفتوح تخرج منه أوردة وشرايين بألوان مختلفة بالإضافة إلى ما يشبه الغضروف الأبيض وقد يكون عظم الذراع.

وصلت باب الطوارئ، فنزلت أركض بالذراع إلى داخل صالة الطوارئ فميّزت أحد الأطباء من ردائه الأبيض. انطلقت إليه وأنا أناديه ملوحا بالذراع: دكتور دكتور.

نظر إليّ وعن بُعد عشرة أمتار تقريبا أخذ يمعن النظر فيما أحمله وعندما تأكد أنها ذراع إنسان، أدار لي ظهره واختفى داخل أحد الممرات، فتوقفت في مكاني وأخذت أستدير بحثا عمن يساعدني ولم أعرف ما أفعله.  فجأة أتتني ممرضة، ما زلت بعد عشرين عام من الحادثة أتذكّرها حتى اليوم، قصيرة بملامح هندية تقليدية، أمسكتني من يدي الفارغة وجرتني وراءها وأخذنا نركض وأدخلتني غرفة صغيرة منزوية بها صندوق مستطيل من الفايبرجلاس، يشبه الفريزر، فتحت بابه وطلبت مني طمر الذراع أسفل مكعبات الثلج.

أحداث القصتين حقيقية وجرت لي شخصيا وظلّت حية معي رغم مرور الزمن. لم تختف رائحة احتراق لحم الأطفال الثلاثة من أنفاسي. وظلّت الذراع المبتورة تطفو على سطح ذاكرتي كلّما مدّ أحدهم يده لمصافحتي. عرفت من القصتين حجم الألم الذي يخنق روح الإنسان عندما يخذله المناصرون ويدير له العالم ظهره، هو ألم ليس بشدّة آلام احتراق الجسد أو قطع الذراع لكنه ألم لن ينساه الإنسان وسيظل يشعر بمرارته مهما طال به الزمن.

بالنسبة لي لست بطلا، فالبطل هو ذلك الرجل الذي اقتحم الغرفة المحترقة وأخرج الأطفال الثلاثة. والبطل هو الممرضة الهندية الشابة التي أقدمت عندما فرّ الطبيب.

كل ما سبق جعلني أفكّر في حال الأطباء والمسعفين وفرق الطوارئ في غزة عندما يعجزون عن قيامهم بواجباتهم في مساعدة الأطفال والمصابين وضحايا العدوان الصهيوني. تتراءى لي سيارات الإسعاف وهي تنفجر بسائقيها ومسعفيها والمصابين فيها جراء القصف الجوي وقذائف الدبابات الغازية. وسيارات الإسعاف التي توقفت عن العمل لعدم وجود الوقود.

هؤلاء هم الأبطال الذين لم يتوقفوا عن أداء أعمالهم البطولية الخطرة إلّا عندما خذلهم الناصر والجار والقريب والصديق وآبار النفط العربية.

بعد مشاهدتي للأطفال الشهداء المحترقين والمشوهة أجسادهم في غزة، زالت من أنفي رائحة الأشقاء الثلاثة المحترقين وانمحت من ذاكرتي صورة ألوان أوردة وشرايين الذراع المبتورة لكني مازلت أشعر بطعم مرارة امتناع الرجال عن مساعدتي في حمل الطفل المحترق وهروب طبيب الطوارئ في المستشفى.

هذه المرارة لن تزول أبدا من نفسي ومن نفوس الأطقم الطبية وفرق الطوارئ في غزة مهما طال الزمن.