عبدالهادي الجميل يكتب: الزمن الأغبر
كنت مساء يوم الجمعة الماضي في ساحة الإرادة الرطبة على ضفاف الخليج، أستمع لكلمة النائب الأسبق عدنان عبدالصمد وهو يلقيها في الوقفة التضامنية التي دعت إليها المقاومة الفلسطينية. كانت هتافات الجماهير الحماسية تطغى على أصوات المتحدثين وتقاطعهم، فخاطب عبدالصمد الجماهير قائلا: اسمعوني قليلا كي أنهي كلمتي. فسمعتُ صوتا نسائيا من ورائي يقول: لا نريد أن نسمع كلمتك. فالتفتُ وقلت من وراء كتفي: نحن في هذا الزمن الأغبر بأمس الحاجة لكل صوت متضامن ولو اختلفنا معه ولكل كلمة مؤيدة للمقاومة ولو لم يعجبنا قائلها.
أعادتني عبارة المرأة المجهولة إلى حرب يوليو 2006 بين المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله والجيش الإسرائيلي. شهدت تلك الحرب أمرين جديدين كانت لهما آثار لاحقة مازالت مستمرة حتى اليوم، الأمر الأول ظهور أصوات عربية تحمّل حزب الله مسؤولية الحرب وكأنه من يحتل أجزاء من إسرائيل وليس العكس. والأمر الثاني صمود لبنان والمقاومة طوال 43 يوما من الحرب حتى تكبّد الجيش الصهيوني خسائر فادحة لم يتعود عليها فاضطر للانسحاب المذل وتم إثر تلك الحرب تشكيل لجنة تحقيق إسرائيلية لمعرفة أسباب الهزيمة التي أدّت إلى استقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد البحرية ومجموعة من قادة الجيش الإسرائيلي. ورغم الاعتراف الإسرائيلي بالهزيمة إلّا أن تلك الأصوات العربية المعادية للمقاومة اللبنانية قلّلت من أثر ذلك الإنتصار عبر الإشارة إلى الدمار الكبير الذي ألحقه الطيران الإسرائيلي بلبنان وخصوصا الضاحية الجنوبية لبيروت.
مضى على تلك الحرب 17 عاما جرت خلالها الكثير من الأحداث والمتغيرات من بينها مبادرات سلام فاشلة وانقلاب في المواقف والخنادق وتغيّر في الأنظمة العربية وغياب دول عربية مؤثرة عن المشهد العربي وعمليات تطبيع بين عدة دول عربية هامشية وبين إسرائيل ولكن شيء واحد لم يتغير هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي وتوسّعه الهائل في عمليات الاستيطان وبناء المستوطنات وازدياد عمليات القتل اليومي الممنهج لأبناء الأراضي المحتلة دون اكتراث بقرارات الأمم المتحدة التي تطالب الاسرائيليين بالانسحاب من الأراضي المحتلة وحماية الشعوب الواقعة تحت الإحتلال، وسط تجاهل العالم المتحضر لمعاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه السليبة.
في 7 أكتوبر الماضي استيقظ العالم على خبر اجتياح عدة مئات من كتائب عز الدين القسام الفلسطينية للأراضي المحتلة بواسطة سيارات صينية الصنع ودراجات نارية مستهلكة في هجوم برّي غير مسبوق تمت تغطيته جوا بعشرات الطائرات الشراعية البدائية التي تعمل بموتورات غسّالات ملابس تم تعديلها كي تصبح قادرة على التحليق بالطائرات الشراعية لارتفاعات لا تتجاوز 100 متر لكنها كانت كافية كي تسيطر على السماء الفلسطينية خلال العملية الجريئة.
لأول مرة على الإطلاق تشن مليشيات عربية محدودة العدد، محاصرة ومعزولة ومزودة بأسلحة بدائية، هجوما بريا داخل العمق الفلسطيني المحتل وتنجح عمليا في تحرير أجزاء لا يستهان بها من فلسطين السليبة وهو ما عجزت عنه الجيوش العربية النظامية منذ 1948م. لم تدم هذه العملية سوى عدة ساعات كانت كافية كي تتنفس الأرض الفلسطينية المحتلة هواء الحرية وكافية جدا كي تقع أشد مخاوف اسرائيل وهو انهيار الأمن الداخلي وعجز الجيش، الذي لا يٌقهر، عن حماية أرواح وبيوت وممتلكات المواطنين الإسرائيليين. فقُتل منهم 1400 شخص حتى ساعة كتابة هذا المقال. وأُسر العشرات ومن بينهم قادة في الجيش. وهنا ينبغي أن أتساءل لو أن عدد أفراد القوة الفلسطينية المُهاجِمة 10 آلاف بدلا من ألف، هل ستجد من يوقفها قبل دخولها القدس لآداء صلاة ظهر يوم السبت في المسجد الأقصى؟
لنتحدث عن الواقع الجديد الذي تلا عملية 7 أكتوبر وأهم ما فيه أن إسرائيل قد" فقدت أخيرا أعز ما تملك". وهذا يعني أن مرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قد بدأت بأدوات جديدة وشروط جديدة وأهداف جديدة.( للتذكير فقط كان اسمه سابقا الصراع العربي-الإسرائيلي لكن بفعل موجات التطبيع المنفردة أصبح اسمه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وهو مسمّى يتماهى مع الزمن الأغبر الذي نعيشه).
أبرز متغيرات مرحلة" فقد إسرائيل أعز ما تملك" وأهمها على الإطلاق أنّ إسرائيل التي كانت تحمي مصالح الدول الإمبريالية في الشرق الأوسط أصبحت بحاجة لمن يحميها فعليا، ولهذا نرى تكالب الدول الغربية الكبرى على إرسال حاملات طائراتها إلى بحر غزة وإقامة جسر جوي لتزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر ووضع أسراب الطائرات الحربية الأمريكية على أهبة الاستعداد في مطارات الدول المجاورة وخصوصا المطبّعة منها. ومن المتغيرات المهمة أيضا أن إسرائيل لم تعد الملاذ الآمن لليهود في أنحاء العالم وهو الشعار المغري الذي جذب الأوغاد الإسرائيليين إلى فلسطين في هجرات متتالية من كل أصقاع الأرض، وقد نشهد في القريب العاجل هجرات عكسية فعلية من إسرائيل إلى روسيا وأوكرانيا وبولندا وألمانيا وأمريكا وإثيوبيا وبقية البلاد التي أتى منها شذّاذ الآفاق وقطعان اللصوص وأظن أنّ أول طائرة هجرة عكسية ستحمل على متنها يعقوب" أبله حي الشيخ جرّاح" صاحب العبارة الشهيرة التي رد بها على المرأة الفلسطينية عندما طالبته بالخروج من بيتها: إن لم أسرقه أنا سيسرقه شخص آخر.
من ضمن المتغيرات أيضا أن الفلسطينيين قد يتخلون عن حل الدولتين الذي أصدرته الأمم المتحدة في قراري 242 و338 وهو ما طالب به الفلسطينيون ورفضته اسرائيل طوال 60 عام. ومن ضمن المتغيرات أن حل القضية الفلسطينية ليس في رام الله مقر السلطة الفلسطينية الخانعة ولا في أي عاصمة عربية مطبّعة أو تشتهي التطبيع بل في أيدي المقاومة ومن يريد التفاوض على السلام فعليه الجلوس مع المقاومة لأنها صاحبة اليد العليا والجهة الوحيدة التي تحظى بثقة الفلسطينيين وبقية الشعوب العربية الحرة.
من جانب آخر، يعي رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو كل ما سبق ويحاول ألّا يصبح ذلك واقعا يضطره صاغرا للتعامل معه ولذلك كان هجومه الهمجي الضخم على غزة، وحجم هذا الهجوم يعكس القوة الحقيقية والتأثير الفعلي للإهانة التي نتجت عن عملية المقاومة الفلسطينية حتى أصبح نتنياهو لا يقيم وزنا لأي اعتبارات دولية وظهر ذلك بافتخاره العلني باستهداف المنشآت المدنية والبنية التحتية والأطفال والمدنيين، وتعطّشه الواضح لشن الهجوم البري على غزة كي يمحو العار الذي لحق به صباح 7 أكتوبر وكي يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ذلك التاريخ وإن كان يعلم بأن الوقت قد تأخر على ذلك داخليا على الأقل، فالشعب الإسرائيلي لم يعد يثق به كما أن الجيش أو بعض القيادات لا تحبّذ التعامل معه. أمّا دوليا فإن المقاومة الفلسطينية ألحقت الهزيمة الواضحة بالأسلحة الغربية الفتاكة التي أخافت العالم طوال عقود. كما استطاعت المقاومة الفلسطينية التغلب على أحدث منتجات الغرب من أجهزة الرادار والمراقبة والرصد والحماية ولهذا انتفضت الدول الكبرى وقررت الدخول في الحرب إلى جانب إسرائيل بشكل علني ومباشر كما فعلت بريطانيا وفرنسا في حرب 1956 ضد مصر.
وهنا لا بد أن أشير إلى عودة الأصوات العربية التي أشرت لها عندما تحدثت عن حرب 2006 وكي يكون الأمر واضحا:
ليس أمام الفلسطينيين سوى خيار واحد من إثنين.. المقاومة أو الإستسلام للمحتل وقد اتضح لنا بشكل مباشر أنهم اختاروا المقاومة، بالمثل أقول ليس أمام العرب سوى خيار واحد من اثنين: الوقوف مع الشعب الفلسطيني المُحتل أو الوقوف مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي. أي حديث عن الخوف على الفلسطينيين بحجة ضعفهم وعدم تكافؤ القوى هو في حقيقته انحياز تام للاسرائيليين. فلسطين مُحتلة وأهلها قرروا المقاومة وبذل المال والدم والروح والولد ولا يقبلون بأقل من تحرير أرضهم ومن لا يعجبه ذلك من بني عمومتهم العرب في هذا الزمن الأغبر فليصمت مشكورا وسيعتبرونه يقف في صفّهم وليس ضدهم.
ألأوطان المُحتلّة تستحق من يضحي من أجلها لا من يتباكى بحجة الخوف عليها. هل هناك ما يُبكي الشعوب الحرة غير احتلال أوطانها؟
لم يذكر التاريخ تحريرا دون مقاومة ولا مقاومة دون تضحيات. لولا حروب التحرير لما عرف العالم الشهداء الذين يحبهم الله. حروب التحرير طويلة ودامية ومؤلمة لكن الحرية تستحق كل ما يُبذل من أجلها.
لولا المقاومة الدامية لما تحررت الجزائر في 1962 بعد 132 عام من الاحتلال المأساوي. ولولا المقاومة الباسلة لما تحرر اليمن الجنوبي عام 1967 بعد 129 عام من الاستعمار القذر. ولولا التضحيات المشهودة والخالدة لما تحررت فيتنام من احتلالين متتالين، الأول من فرنسا واستمر من عام 1880 وحتى 1940م ثم احتلال أمريكي بشع من عام 1955 حتى عام 1973م. ولولا المقاومة اللبنانية والفلسطينية الباسلة لما تحررت بيروت من الاحتلال الاسرائيلي عام 1982. ولولا المقاومة اللبنانية لما هربت قوات الاحتلال الاسرائيلي وعملائها، في الظلام، من جنوب لبنان عام 2000.
الأصوات العربية التي هاجمت حزب الله في حرب 2006 بحجة أنه تابع لإيران هي ذاتها الأصوات التي تهاجم اليوم كتائب عز الدين القسام بحجة أنه الذراع العسكري للإخوان المسلمين ولو ظهرت في مرتفعات الجولان مقاومة سورية للاحتلال الإسرائيلي لوقفوا ضدها وهاجموها بحجة أنها تابعة لحزب البعث ولو ظهرت مقاومة في بيت لحم لهاجموها واتهموها بأنها تابعة للمسيحيين. هذه الأصوات النشاز لن تهاجم الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الدموية لأنها ضد المقاومة وضد الكرامة وضد الحرية لكنها لن تُظهِر ذلك كي لا تنكشف سوأتها، بل ستقولها تلميحا ومن باب الحرص الكاذب على حياة الفلسطينيين والقبول بما يقرره الاحتلال على طريقة المثل العربي:" من طلب المُحال لا يحظى بـ نوال". وهو شبيه بما قاله الشاعر الراحل مظفر النواب وهو يهاجم دعوات الصلح مع الصهاينة في قصيدة" بحّار البحّارين"الشهيرة:
إقبل قبل فوات الفرصة صفقتنا
شارك في الحل السلمي قليلا
أولاد القـ......بة كيف قليلا..
نصف لو..ط يعني؟
ختاما لديّ ما أود أن أؤكد عليه:
نحن ضد القتل وضد الدم وضد اليتم وضد الثكل وضد الترمّل وضد الحزن وضد القهر وضد الرصاصة وضد البندقية وضد الصاروخ وضد الحرب في العالم كله إلّا في فلسطين.
كل طفل إسرائيلي بريء يموت في فلسطين، دمه في رقبة أبويه.
كل عجوز اسرائيلية تموت في فلسطين، دمها في رقبة من أتى بها.
كل شيخ اسرائيلي مات في فلسطين، دمه في رقبة من أغراه بالمجيء.
كل رصاصة فلسطينية انطلقت، هي في طريقها الشرعي.
كل لغم فلسطيني انفجر، هو في أرضه الوطنية.
كل صاروخ قسّامي حلّق في السماء، هو في أفُقه المقدّس.
لن نحزن على موتى الصهاينة فقد جفّت مآقينا حزنا على شهدائنا طوال 60 عام.
تعرضنا في الكويت لاحتلال بغيض ومؤلم استمر 7 أشهر لا أظنه أقل إيلاما من بقية الاحتلالات التي شهدها العالم لأنه من الشقيق العربي الذي اعتقدنا أنه السند والحامي والحضن والعمق فدافعنا عنه بأرواحنا وأموالنا وأولادنا ومستقبلنا. ومن يحاول الآن تحريضنا على الفلسطينيين للوقوف ضدهم بحجة أنهم وقفوا ضدنا في الاحتلال، واهم. نحن نساند الفلسطينيين لأننا ككويتيين نعرف مرارة الاحتلال ولأننا تعوّدنا أن نقف مع الحق والعدالة والمبادئ قبل أي شيء ولا نقف مع الأشخاص أو الدول. ولهذا نحن نتفاخر بشهدائنا ولا نرثيهم، نمجّدهم ولا نبكيهم، نتذكرهم فتشرئب أعناقنا إلى عنان السماء كي نٌري العالم ابتسامتنا الصادقة اليتيمة في هذا الزمن الأغبر.
* ملاحظة:
لتسهيل الكتابة وسلاستها، كتبت
كلمة اسرائيل لكن المقصود بها الكيان الصهيوني.
وكتبت الاسرائيليين والمقصود هو الصهاينة.
قلت لكم انه زمن غبر والله.