هل ستتحول الكويت إلى ساحة خلفية للمجاهدين؟
انطلقت الحراكات الشعبية العربية (أو ما يسمى بالربيع العربي) في بداية عام ٢٠١١م لأسباب موضوعية و دوافع مستحقة كانعدام أو تراجع العدالة الاجتماعية؛ وتهميش الطبقات الشعبية وإفقارها؛ والتضييق على الحريات العامة؛ وانسداد أفق التنمية ونهب مقدرات البلاد... ولقد انتجت بعض هذه الحراكات تغييراً في شكل النظام -وليس مضمونه- مع بعض المكتسبات الشعبية والسياسية، وبعضها أعاد إنتاج الأنظمة السابقة -وربما على نحو أكثر رجعية- بسبب الثورات المضادة (الدينية والعسكرية)، وبعضها الآخر تحول إلى حروب دموية واقتتال أهلي وطائفي بسبب التدخلات الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق، وبعد تولي الإخوان السلطة في مصر وتونس، لاحظنا على نحو واضح نفوراً في سياسة السعودية ضد التنظيمات السياسية الدينية بشكل عام وتنظيم الإخوان المسلمين بشكل خاص، وكانت الإمارات قد سبقت السعودية بهذا النفور، والسبب الرئيسي هو تضاد مشاريع حكومات هاتين الدولتين مع مشروع هذا التنظيم الذي بانت ملامحه ما بين عامي ٢٠١١م و٢٠١٣م، ويمكن القول بأن معركة حكومات هاتين الدولتين مع هذا التنظيم باتت أقرب إلى معركة وجود و"كسر عظم" منها إلى معركة صراع سياسي عادية و"ليّ ذراع"...
وفي سوريّة والعراق منيت الميليشيات الدينية المسلحة بمختلف يافطاتها بهزائم متلاحقة إما بسبب جفاف منابعها من دول الجوار أو من الدول الإمبريالية الراعية وكذلك بسبب تماسك الأنظمة في هذه الدول، وفي تونس ومصر يبدو واضحاً بأن وضع الإخوان المسلمين فيهما ليس في أحسن حالاته كما كان في ٢٠١١م، وفي ليبيا هناك تقدم عسكري وسياسي لنظام حفتر المدعوم خارجياً على حساب الميليشيات الإسلامية المسلحة ومشروعها الديني... ومن جانب آخر تشهد السعودية تحولات دراماتيكية على مستوى هامش "الحريات الشخصية" وبروز مظاهر الحياة العصرية مثل دور السينما والحفلات الموسيقية والغنائية الكبيرة وقيادة المرأة للسيارة وإنهاء ما يسمى (بمنع الاختلاط) في الاحتفالات والمطاعم والملاعب وغيرها، ويترافق هذا كله مع الهجمتين الإعلامية والأمنية ضد تنظيم الإخوان المسلمين ما يقيّد حركتهم ويقلّص دورهم، بل حركة ودور الإسلام السياسي في السعودية بشقيّه السني (الآن) والشيعي (منذ عام ١٩٧٩م)... أما في الإمارات فمن الواضح الجليّ بأن السلطات هناك تحاصر مشروع التنظيمات الدينية بمختلف أطيافها ودرجات تطرفها...
وما يعنينا من كل ما سبق انعكاساته وتداعياته على الوضع في بلادنا الكويت، ذلك أن الكويت عُرِفت منذ تأسيسها بأنها المكان المناسب للجوء المقموعين سياسياً أو المهزومين عسكرياً أو للهاربين من واقع غير ملائم لعيشهم أو لممارسة نشاطهم السياسي أو الفكري، وهذا يرجع لطبيعة تكوين المجتمع الكويتي المنفتح نسبياً والقادر على استيعاب أطياف واسعة من الاتجاهات السياسية والفكرية، كما يرجع لسياسة السلطة التي لا تقوم على الاصطدام المباشر والقمع الشديد، ومن الجدير بالذكر بأن لبنان في فترة الخمسينات والستينات كانت تؤدي مثل هذا الدور في استيعاب اللاجئين والهاربين من واقع بلدانهم... فهل تصبح الكويت اليوم ملجأً للمتطرفين الدينيين القادمين من بلدان الجوار في ظل هذا الواقع الإقليمي الطارد لهم؟
وأنا في هذا المقال لا أحرض ضد الآخر المختلف معه فكرياً وسياسياً، فهناك تنظيمات دينية في الكويت من إخوان وسلف وما بينهما وهم جزء من الواقع السياسي الذي نتعامل معه بغض النظر عن اختلافنا مع مشاريعهم وأطروحاتهم، ولكنني أتحدث هنا عن شيء مختلف وواقع جديد محتمل في الكويت قد تخلقه الهجرة الطوعية للمتطرفين من دول الجوار... إذ أين سيجد المتطرفون الهاربون من الهزائم العسكرية في العراق وسوريّة متنفساً لهم؟ في السعودية التي بدأ يتشكل فيها جو من الانفتاح "على مستوى الحريات الشخصية"؟ أم في الإمارات التي تشن عليهم حرباً لا هوادة فيها؟ هل ستكون قطر -المُقاطعة من محيطها- مكاناً مناسباً أم أن حركتهم منها وإليها ستكون صعبة؟ هل الأردن التي خاضت معارك مسلحة مع المتطرفين مكان مناسب؟ هل تركيا البعيدة عن الموطن والمجتمع الذي يمكن للعمل التأثير فيه مكان مناسب للتمركز والتركّز؟
أم ستكون الكويت التي يشكل جزءٌ ليس بالقليل من شعبها امتداداً اجتماعياً طبيعياً لدول الجوار مكاناً مريحاً يعيش به هؤلاء المتطرفون من غير شعور كبير بالغربة؟ وهل ستصبح مساجد الكويت أماكن مناسبة لممارسة الأنشطة الفكرية والتنظيمية لهؤلاء المستجيرين بين صفوف الشباب الكويتي والمتعاطفين؟ وقد أبالغ في تساؤلاتي وأسأل عما إذا كانت الكويت التي منعت فيها مؤخراً عروض تراثية في المباركية وحفلات موسيقية بسبب احتجاجات سياسيين دينيين تعتبر مكاناً أنسب لرواج أفكار هؤلاء المتطرفين من بلد بدأت تقام فيه حفلات موسيقية ضخمة في ساحات عامة كالسعودية؟ هل الكويت التي تمت فيها إعادة افتتاح مركز متطرف يثير الفتنة الطائفية في المجتمع تعتبر مكاناً أفضل لتقبّل أطروحات هؤلاء المتطرفين؟ أنا هنا أتساءل وأدعو الجميع للتساؤل... هل وضعت التنظيمات السياسية المدنية العلمانية بمختلف أطيافها الوطنية والديمقراطية والليبرالية والتقدمية بحسبانها مثل هذا الاحتمال المرعب والكئيب؟ هل تستوعب السلطة أن الكويت قد تتحول إلى ساحة خلفية للمتطرفين الذين يعتبرون أنفسهم مجاهدين؟
باختصار، هذه ليست دعوة للتحريض والقمع، بل دعوة للانتباه إلى التداعيات التي قد تنعكس سلباً على بلادنا جراء ما يشهده الإقليم من تبدلات... وليس هناك من بديل غير تحصين الجبهة الداخلية على قاعدة الحريات والمشاركة الشعبية، وهذا ما يتطلب طيّ صفحة الأزمة السياسية التي خيمت على الكويت منذ ثماني سنوات ولا تزال، وتحقيق انفراج سياسي داخلي يمهد لحياة سياسية سليمة ولمجتمع حيّ منفتح على المستقبل وعلى التقدم، فالطفيليات لا تجد مكاناً لها على الجسد السليم، وكذلك التطرف والإرهاب.
د. فواز فرحان
أمين اللجنة المركزية
للحركة التقدمية الكويتية