الجزء الثاني من ندوة تاريخ الكويت السياسي في مخيم التيار التقدمي الكويتي
أعدها للنشر علي حسين العوضي "جريدة الطليعة -العدد ١٩٣٤:
أقام التيار التقدُّمي الكويتي مخيَّمه الربيعي الأول، والذي شهد أجواءً اجتماعية حافلة بين منتسبيه. وتخلل هذا المخيَّم بعض المحاضرات التثقيفية والتنويرية، التي شملت مختلف القضايا السياسية المحلية.
عضو التيار التقدُّمي أحمد الديين ألقى محاضرة حول التاريخ السياسي الكويتي، تناول فيها تطوُّر الكيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الكويت، منذ بداياتها، متوقفاً أمام محطات بارزة أسهمت في التحوُّل في المسار الديمقراطي.
تم اعتقال بعض نواب المجلس التشريعي والمؤيدين له، أمثال: يوسف المرزوق وسليمان العدساني وصالح عثمان الراشد وعبداللطيف ثنيان الغانم وسيد علي سيد سليمان الرفاعي ومشعان الخضير الخالد.
وأمضى هؤلاء في السجن خمس سنوات، وأفرج عنهم في أبريل من عام 1944. والتساؤل المطروح هو: لماذا لم تتطوَّر الحركة الديمقراطية في تلك الفترة؟ نقول إن نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، غيَّر موازين قوى عديدة، وكذلك الموقف البريطاني الذي تغيَّر بشكل يناهض التحوُّلات الديمقراطية. وهنا، عاشت الكويت في حالة من الانفراد بالسلطة، وقامت بإنشاء مجلس شورى بالتعيين، وهو إجراء شكلي لم ينجح.
تطور جديد
ومع الإفراج عن المعتقلين في عام 1944، بعد محاولة من الشيخ حافظ وهبة، حدث في عام 1946 تطور تاريخي مهم في الاقتصاد الكويتي، عندما بدأ تصدير النفط بكميات تجارية، فلم تعد هناك أهمية كبيرة للنظام الاقتصادي القديم، حيث نشأ وضع جديد، وأيضا أعمال ووظائف في شركة النفط، وهناك ميزانية للدولة، وبدأت البعثات التعليمية تظهر بكثافة، إلا أنه مع كل هذه التطورات لم يكن هناك تطور سياسي ملموس، حتى المطالبات بإنشاء نادٍ أدبي ثقافي قوبل بالرفض، على الرغم من إنشاء نادٍ أدبي في العام 1924. بعدها، حدث تطور سريع داخل المجتمع الكويتي، فعندما توفي الشيخ أحمد الجابر في 29 يناير 1950 تغيَّر ميزان القوى، حيث نُصِّب الشيخ عبدالله السالم حاكما في 25 فبراير 1950 لوجوده خارج الكويت، وكان مستنيرا بفكره ومتعاطفا مع الحركة الإصلاحية الديمقراطية، وفي الوقت نفسه حدث رخاء في عهده.
الشيخ عبدالله السالم كان مقيدا بشكل أو بآخر، لأن جزءاً من أفراد الأسرة الكبار يرفضون التوجهات الديمقراطية، فلم يكن ميزان القوى لمصلحته تماما، ولكن مع ذلك، سمح بإجراء انتخابات للمجالس المتخصصة عام 1951، فصار هناك مجلس منتخب للصحة وآخر للمعارف والأوقاف والبلدية.
حراك شعبي
أهل الكويت طالبوا في ذلك الحين بدستور، فالرأي القائم هو أننا إمارة دستورية، وما حصل في هذه الفترة هو إنشاء الأندية، سواء كانت رياضية أو ثقافية.. وكذلك إعطاء تراخيص للصحف، فأصبحت هناك حركة داخل البلد، فتكوَّنت حركات سياسية وتيارات، حيث نشأت حركة الإخوان المسلمين في الكويت، ومن ثم حركة القوميين العرب، إضافة إلى تنظيمات أخرى للبعث العربي واليسار الشيوعي، من خلال تنظيم العصبة الديمقراطية، فحدثت مطالبات لعقد مؤتمر دستوري في مسجد السوق، الذي هو بجانب المدرسة المباركية في مايو 1955، لانتخاب هيئة شعبية لوضع دستور.
طبعا، السلطة منعت بالقوة انعقاد مثل هذا المؤتمر، ولكن الحركة الوطنية نشطت، وخصوصا بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. ونتذكر حينها عندما أصدر مدير الشرطة - آنذاك - الشيخ صباح السالم أمراً لقائد قوة الشرطة بقمع المتظاهرين، واستقال جاسم القطامي و19 آخرون من مناصبهم ووظائفهم في الشرطة، لرفضهم هذا الأمر، ما يدل على قوة الحركة الوطنية.
ومع استمرار المطالبات الشعبية بإجراء انتخابات عامة، أجريت هذه الانتخابات، وعندما فاز د. أحمد الخطيب وجاسم القطامي ويعقوب الحميضي، حدث استنفار لمراكز النفوذ التي رفضت النتيجة، وطالبوا بإبعاد هؤلاء الثلاثة، لكن النواب الفائزين رفضوا وقدَّموا استقالاتهم. ونشأت في هذه الأثناء «الرابطة الكويتية»، التي ضمَّت أبناء التجار المستنيرين، بالتحالف مع القوميين العرب، وطالبت بالإصلاحات. وفي هذه الفترة، ازداد نفوذ الحركة الوطنية، وارتفعت حدة طرحها، مقابل التشدد من بعض الأطراف في السلطة والأسرة.
ففي مناسبة الذكرى السنوية الأولى للوحدة بين مصر وسوريا عام 1959، أقيم مهرجان في ثانوية الشويخ، احتفالا بهذه المناسبة. فألقى جاسم القطامي كلمة باسم الأندية الكويتية، قال فيها «نحن نتطلع أن يكون للشعب دستوره ونوابه ووزراؤه، وينتهي الحكم العشائري، ويقوم حكم برلماني دستوري». وعلى اثره، تم فض الاحتفال واستدعاء جاسم القطامي وأحمد الخطيب واتخذت السلطة قرارا بإغلاق الأندية، بما في ذلك الأندية الرياضية وجميع الصحف، ما عدا الجريدة الرسمية «الكويت اليوم».
استقلال الكويت
في عام 1958، كان هناك أمر آخر يجري، وهو أن هناك اتجاها لتنال الكويت استقلالها، بحيث تصبح جزءاً من الاتحاد العربي الهاشمي بين المملكة الأردنية والعراقية، فجاءوا بخبير قانوني، وهو عبدالرزاق السنهوري، وتم تكليفه بوضع قوانين لدولة حديثة، واستمر وضع الأساس لدولة حديثة، على الرغم من فشل مشروع الدولة الهاشمية.
وفي عام 1961 نالت الكويت استقلالها، وبعدها في 25 يونيو طالب عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق، انطلاقا من ادعاءات معينة. وكانت هناك مشكلة في الاعتراف العربي والدولي، سواء في الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، وشكل وفد برئاسة الشيخ جابر الأحمد مع شخصيات كويتية، حيث عاد الوفد بتوصيات تؤكد أهمية وجود دستور وبرلمان. فالحركة الوطنية كانت تطالب وهناك تاريخ سابق بهذا الاتجاه، والشيخ عبدالله السالم كان يميل للقبول بهذا الشيء، فتمَّت الخطوة الأولى باتجاه النظام الدستوري، من خلال تأسيس المجلس المشترك، وفي الوقت نفسه تهيئة الأجواء لانتخابات مجلس تأسيسي، وقتها طالب «الوطنيون» بأن تكون الكويت دائرة واحدة، لكن هذا المطلب قوبل بالرفض، حيث صدر القانون بتقسيم الكويت إلى 20 دائرة، فحدثت توجهات نحو المقاطعة، حتى تم التوصل إلى صيغة وسط، تمثلت في تقسيم الكويت إلى 10 دوائر. وصدر القانون رقم 1 لسنة 1962، وهو النظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال. طبعا، المعارضة الوطنية، نتيجة لالتصاقها بالواقع الاجتماعي والمجتمعي وقيادتها للحراك السياسي، نجحت في الفوز بالانتخابات، حيث تولى د. أحمد الخطيب منصب نائب رئيس المجلس التأسيسي، حيث فاز عن دائرة الشويخ والجهراء. وتم تشكيل لجنة إعداد الدستور التي شملت شخصيات معارضة، مثل يعقوب الحميضي وأخرى مستنيرة، مثل وزير العدل حمود الزيد الخالد، إضافة إلى الشيخ سعد العبدالله وسعود العبدالرزاق ورئيس المجلس عبداللطيف ثنيان الغانم.
مساومة سياسية
وعقدت اللجنة سلسلة من الاجتماعات وتناولت العديد من القضايا الرئيسة، مثل النظام الرئاسي أو البرلمان، إلى أن تم الاتفاق على نظام وسط يشمل الاثنين، ونقاش آخر حول الشريعة الإسلامية، وكذلك عضوية الوزراء من غير النواب في مجلس الأمة، إضافة إلى الهيئات السياسية. وتستطيع القول إن الدستور هو نتيجة مساومة سياسية معينة. وفي عام 1963، أجريت انتخابات مجلس الأمة الأول، وفازت المعارضة بكتلة كبيرة، تمثلت في ثمانية نواب، وكذلك التجار. الحركة الوطنية الديمقراطية أنجزت إنجازات أخرى غير الدستور، مثل إنشاء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية والحركة الطلابية، من ثم أصبحت الكويت أمام استحقاقات الدولة الحديثة. هناك بعض الشيوخ تعامل مع الدستور على أنه خطأ تاريخي يجب تصحيحه، وبدأت أول محاولة لإفراغ الدستور من محتواه الديمقراطي بإصدار سلسلة من القوانين المقيدة للحريات، وأدَّى ذلك إلى استياء نواب المعارضة، والتي قدَّمت استقالتها من المجلس، من خلال بيان شهير عام 1965 بعد وفاة الشيخ عبدالله السالم.
تزوير 1967
الحركة الوطنية استجمعت صفوفها وقواعدها لخوض انتخابات مجلس الأمة الثاني التي أجريت في 25 يناير 1967، وتأتي أهميتها بأنه مع هذا المجلس يكون قد مضى خمس سنوات على بدء العمل بالدستور، وهذا المجلس هو الذي سيقوم بتنقيح الدستور نحو الأفضل، حيث تألفت كتلة قوية من المعارضة لخوض الانتخابات، تكوَّنت من حسن فلاح رئيس اتحاد نقابات البترول، إلى عبدالعزيز الصقر رئيس غرفة التجارة، مرورا بأحمد الخطيب وجاسم القطامي وسامي المنيس وعبدالله النيباري وأحمد السعدون وآخرين، وكان المتوقع أن تفوز هذه الأغلبية الوطنية، وتضافرت مجموعة من العوامل أدَّت إلى تزوير فج للانتخابات، حيث دخلت الشرطة بالقوة لنقل الصناديق من اللجان الفرعية إلى الأصلية، من دون أن تغلق هـذه الصناديق أو تختم بالشمع الأحمر، ومن دون مرافقة القاضي ومتدربي اللجان، وتم استبدال أوراق الناخبين، والغريب أنها جاءت كلها بلون واحد!
حدث اعتراض من المعارضة والقريبين منهم، وصدر بيان، كان التوجه أن تقوم الحركة الوطنية بتحرك كبير، ولكن بسبب اختلاف المصالح بين التجار الذين طالبوا بالتهدئة، وقيادة الحركة الوطنية وأدَّى ذلك إلى انفضاض واسع للجماهير القريبة من الحركة الثورية الشعبية التي قامت ببعض الأعمال الاحتجاجية ضد عمليات التزوير. الحقيقة، أنه حدث تطور سلبي آخر في العالم العربي وهزيمة حزيران 1967، وضعفت معها الحركة التحريرية العربية وأصبح هناك ميزان مختلف للقوى. ومع ذلك، حاولت الحركة الوطنية أن تقوم بدورها في ظل أوضاع صعبة: مجلس مزوَّر، لا توجد صحافة، قيود على الاجتماعات. فمجموعة حركة الشعبية الثورية، ممثلة بعناصرها، مثل: د.أحمد الربعي وعبداللطيف الدعيج وأحمد الديين وناصر الغانم.. وغيرهم، قامت بتوزيع منشورات والتعبير عن الاحتجاج في الذكرى الثانية للتزوير وزرع قنابل صوتية في مبنى وزارة الداخلية وبيت وزير الداخلية ومبنى مجلس الأمة، وحدثت هناك عمليات اعتقال واسعة بين صفوف الحركة. ووجدت السلطة نفسها تتراجع عن أسلوبها، عندما انتقد رئيس الوزراء حينها الشيخ جابر الأحمد بعض السياسات العامة والوعد بالإصلاح.
فكان واضحاً أن انتخابات 1971 ستجري من دون عمليات تزوير.
تشكيلات سياسية
الحركة الوطنية هنا انقسمت إلى قسمين: الأول يريد المشاركة، والآخر يريد المقاطعة، وهو ما يؤكد حالة الانشقاق التي حدثت في حركة القوميين العرب، التي تحوَّلت إلى ثلاثة أجنحة، اليسار وهم الحركة الثورية الشعبية، مجموعة أحمد الخطيب وسامي المنيس وعبدالله النيباري الذين شكَّلوا حركة التقدميين الديمقراطين، في حين أن المجموعة الثالثة، بقيادة جاسم القطامي، أسسوا لاحقاً التجمع الوطني.
وخاضت حركة التقدميين الانتخابات، وفاز كل من د. أحمد الخطيب وسامي المنيس وعبدالله النيباري وأحمد النفيسي، في ظل مقاطعة الأطراف الأخرى. أما اليسار الوطني، فكانت قوته في الحركة النقابية، سواء العمالية أو الطلابية. أما جماعة التجمُّع الوطني، فكان ثقلهم حينها في جمعية الخريجين.
وبدأت الجماعات الإسلامية والدينية في هذه الفترة تنشط بشكل ملحوظ، حيث لم يكن لها أي دور في النشاط السياسي والاجتماعي، على الرغم من تكونها في العام 1947. وفرضت التحديات الجديدة واقعا مختلفا.
انفراج نسبي
إلا أنه في انتخابات 1975 شاركت غالبية أطراف الحركة الوطنية، وأصبحت هناك حالة من الإفراج النسبي في البلد، انعكس على الصحافة وعلى مؤسسات المجتمع المدني وتأسيس تجمُّعات سياسية أخرى، مثل التجمُّع الدستوري والأحرار الدستوريين.
في هذه الفترة، كان هناك تطور في صفوف اليسار الوطني، ونشأ من بين مجموعة من النقابيين والشباب حزب اتحاد الشعب، كحزب يمثل الطبقة العامة، وأنشئ اتحاد الشبيبة الديمقراطية، وكانت لها إصدارات إعلامية، مثل نشرتي الاتحاد والشبيبة، وكان له وجود داخل الحركة الطلابية، لكن الوجود الأهم كان داخل الحركة النقابية العمالية. إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلاً، عندما جئنا إلى أغسطس 1976 وتم الانقلاب الأول على الدستور، بإصدار الأمر الأميري بحل مجلس الأمة وتعليق العمل ببعض مواد الدستور.