الحركة التقدمية الكويتية تستهجن الطرح الطبقي الاستفزازي المتعالي والتشويه المتعمّد للتاريخ الاجتماعي الكويتي وتجاهل دور الطبقات الشعبية في تصريحات قيادات غرفة التجارة
باستياء بالغ تابعنا في الحركة التقدمية الكويتية، مثلما تابع كثيرون من أبناء شعبنا الكويتي، التصريحات الاستفزازية الأخيرة لعدد من أقطاب القلة الرأسمالية الطفيلية المستأثرة بخيرات البلاد، خصوصاً تلك التي رافقت الانتخابات الأخيرة لغرفة التجارة، حيث كشفت هذه التصريحات عن النَّفَس الطبقي المتعالي لهذه الفئة… كما انطوت هذه التصريحات على تشويه مخادع ومتعمّد للتاريخ الاجتماعي الكويتي، وتجاهل لدور الطبقات الشعبية.
إنّ المجتمع الكويتي لم يكن يوماً مجتمع الشيوخ والتجار فقط، ولا هو اليوم مجرد مجتمع الشيوخ والتجار، مثلما يراه البعض من منظور طبقي متخلف وعنصري، ولن يكون كذلك.
ولئن كان هناك دور للتجار في بناء الكويت، فإنّ ذلك الدور، الذي ارتبط بصعود الطبقة التجارية في المجتمع الكويتي البسيط قبل أربعينات القرن العشرين، قد أصبح اليوم جزءاً من الماضي، حيث تراجع واضمحل، بل تبدّل وتغيّر، وذلك بعدما أصبحت الطبقة الرأسمالية في ظل الاقتصاد الريعي التابع، جزءاً من الحلف الطبقي المسيطر للسلطة، الذي يستأثر بمقدرات البلاد ويحقق تراكمه الرأسمالي وأرباحه عبر الأنشطة الطفيلية والتنفيعية من خلال الاعتماد على المناقصات والعقود الحكومية، ولا صلة لها بالانتاج، وبالاستفادة من التسعير المبالغ فيه لتلك المناقصات والعقود والتلاعب في الأوامر التغييرية عليها، ناهيك عن الأنشطة المضاربية في الأسهم والعقار، واحتكار الوكالات التجارية والارتباط التبعي بالمراكز الإمبريالية العالمية، وتأدية وظيفة متخلفة في إطار التقسيم الدولي للعمل لا صلة لها بالتنمية الوطنية المستقلة، بل تقف على الضد منها، وهي في الوقت ذاته تحمل اليوم مشروعاً نيوليبرالياً فجّاً يدفع باتجاه تصفية قطاع الدولة والجمعيات التعاونية عبر الخصخصة وإلغاء الدور الاقتصادي للدولة، والهجوم على المكتسبات الاجتماعية الشعبية والسعي لتقليصها.
إنّ القلة الرأسمالية الطفيلية المنتفعة اليوم التي لا تمثل إلا امتداداً جينياً للطبقة التجارية في المجتمع الكويتي البسيط قبل النفط، عليها أن تعي بأن الشعب الكويتي يعلم تماماً بأنهم حصلوا ثمن كل ما قدمه أسلافهم أضعافاً مضاعفة من خزينة الدولة سواء من خلال المناقصات أو الاستيلاء على اراضي وأملاك الدولة، ولم تعد تركيبتهم ونشاطهم ودورهم اليوم إلا نفياً ونقيضاً لدور أسلافهم… فواقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي اليوم غير واقعنا حينذاك.
وعندما نتحدث عن تجار الأمس، فنحن في سياق التناول الموضوعي وليس الأحادي، لا يمكن أن نتجاهل الاستغلال الطبقي البشع الذي كان يُمارس ضد الطبقات الكادحة والشعبية بدءاً من الفوائد الربوية الاحتيالية عبر عمليات بيع "العشرة اثنعش" الشهيرة تاريخياً عند التجار، وعبر مصادرة "الطواويش" والممولين مساكن البحارة الفقراء العاجزين عن سداد "السلف" بعد مواسم الغوص الرديئة، وإجبار أبنائهم على العمل بالسخرة في حال وفاة الآباء من البحارة المدينين.
أما عند الحديث عن بناء الكويت عبر التاريخ، فنحن لسنا بصدد إنكار دور أي طبقة أو فئة اجتماعية، فإذا كان هناك مَنْ يقصره على الشيوخ والتجار على نحو منحاز وغير علمي، فإنّ الوقائع التاريخية الموضوعية لا يمكن أن تتجاهل دور البحارة الكادحين من "غاصة وسيوب ويزوة"، ولا تتجاهل دور "القلاليف" من بناة السفن الخشبية، ولا دور صيادي الأسماك، ولا المزارعين الفقراء من "القروية" في واحات "القصور" في الجهراء والفنطاس وبوحليفة وفي جزيرة فيلكا، ولا الرعاة في البادية الكويتية، ولا وفائهم السنوي الملتزم بسداد مشترياتهم آجلة الدفع في تجارة "المسابلة" بعد جلب أصواف الإبل والأغنام والحليب و"الدهن العداني" و"الإقط" إلى أسواق المدينة، ناهيك عن أنّ كثيراً من أبناء البادية كانوا يلتحقون صيفاً بالعمل على سفن الغوص … كما لا يمكن تجاهل دور "المطاوعة والمطوِّعات" في محو الأمية، ولا دور "حماميل" السوق والميناء في نقل البضائع، ولا الباعة البسطاء و"حمّارة" نقل المياه من "البرك" والسفن الخشبية القادمة من شط العرب، وكذلك "الكنادرة"… ناهيك عن دور الحرفيين البسطاء من "خراريز" و"صفافير" وحدادين ونجارين وبنائين و"قصاصيب" وعاملين في المخابز وغيرهم… والأهم لا يمكن تجاهل الدور المميز والمعاناة المؤلمة للنساء الكادحات وتحملهن لقسوة الظروف الاجتماعية التي فرضت عليهن تحمل مشاق الحياة للمحافظة على الاسرة والإنفاق المادي عليها.
ومن جانب آخر، لا يمكن إنكار أنّ الغالبية من هؤلاء الكادحين هم مَنْ دافعوا عن الكويت وشاركوا في الحروب وضحوا بأرواحهم، وهم الذين شاركوا تطوعاً بجهد جماعي متفانٍ في بناء أسوار الكويت الثلاثة وسور الفحيحيل والقصر الأحمر، ويكفي الاطلاع على اسماء شهداء الكويت عبر تاريخها لنعرف أنّهم ينحدرون من مختلف مكونات المجتمع سواء من ابناء الحاضرة والبادية والجزر أو من السنّة والشيعة، بل المنحدرين من مختلف الأصول.
هذا هو تاريخ الكويت الاجتماعي بصورته الحقيقية العلمية، وليس بالصورة المشوهة التي يدعيها أصحاب الطرح الطبقي والعنصري المتعالي…وهذا هو مسار التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، الذي تبدّل فيه موقع التجار ودورهم من طبقة اجتماعية صاعدة فترة ما قبل الأربعينات إلى جزء من الحلف الطبقي المسيطر للسلطة، مثلما هم اليوم.
إنّ الطرح الطبقي المتعالي إنما هو تعبير عن أزمة عميقة تعانيها الطغمة الرأسمالية الطفيلية الريعية التابعة، وهي أزمة مرتبطة بالأزمة العامة للنظام الرأسمالي العالمي، الذي ينتج من بين ما ينتج عند احتدام أزماته النزعات والدعوات والجماعات الفاشية والعنصرية، وهذا للأسف ما أصبحنا نراه ونلمسه ونسمعه ونشاهده ونقرأه، بحيث لابد من دحضه والتصدي له ومحاصرته، وتشكيل وعي اجتماعي وطني إنساني تقدمي، إذا كنا نريد بناء كويت حديثة ديمقراطية مدنية ناهضة وعادلة اجتماعياً.
الكويت في ٢٤ مارس ٢٠٢٢