كارل ماركس والجائحة .. علي طه
كشفت الأزمة الصحية والاقتصادية والسياسية التي تمر بها البشرية اليوم عن الشروخ والتناقضات العميقة في النظام الرأسمالي العالمي. وبما أن كارل ماركس كان أهم من حلل نمط الإنتاج الرأسمالي وطبيعة أزماته وضرورة تجاوزه، سنحاول في ما يلي الاستفادة من بعض أفكار ماركس حول الرأسمالية في فهم الأزمة الحالية.
الإنسان والطبيعة
طرح ماركس رؤية فلسفية متكاملة حول علاقة الإنسان بالطبيعة. هذه العلاقة بالنسبة لماركس قائمة على التفاعل الواعي للإنسان مع الطبيعة من خلال العمل. الإنسان جزء من الطبيعة ولكنه يغير الطبيعة من خلال التفاعل معها ويتغير هو/هي أيضا في هذه العلاقة.
هذا التفاعل الواعي مع الطبيعة هو سمة عامة في التاريخ البشري أيّا كان نمط الإنتاج السائد. ولكن هذه العلاقة تتأزم مع تطور نمط الإنتاج الرأسمالي. تقوم الرأسمالية على التراكم التنافسي بهدف الربح. هذا التراكم يؤدي إلى التوسع اللانهائي واللاعقلاني في حجم رأس المال على المستوى العالمي. والتوسع الدائم في الإنتاج الصناعي والزراعي وفي الاستهلاك وفي استخراج المواد الخام ومصادر الطاقة في ظل الرأسمالية يؤدي إلى ما يسميه ماركس الصدع التفاعلي (Metabolic Rift) بين الإنسان والطبيعة. وقد كتب ماركس في المجلد الأول من كتاب (رأس المال) حول الدمار الذي يحدثه تصنيع الزراعة في خصوبة الأرض وفي صحة الإنسان. أما فريدريك إنجلز، فقد تناول بشكل مباشر كيف يؤدي التراكم الرأسمالي والتوسع العمراني الذي يحدثه والتكدس السكاني في المناطق العمالية إلى انتشار الأوبئة والأمراض وتطورها بما يهدد صحة البشرية كلها (كتاب "حال الطبقة العاملة في إنجلترا").
إن ظهور وانتشار وباء الكورونا هو نتيجة مباشرة للصدع في علاقة الإنسان بالطبيعة والذي يتسبب فيه التراكم الرأسمالي. ولا يمكن الفصل بين ظهور هذه الفيروسات الجديدة وبين الأزمة البيئية والتغير المناخي الذي يهددنا جميعا بالفناء. استنتاج ماركس وإنجلز منذ أكثر من 150 عاما أصبح أكثر إلحاحا في القرن الحادي والعشرين: إما القضاء على الرأسمالية وبناء بديل إنساني وإما ستقضي الرأسمالية علينا جميعا.
الكينزية أم الماركسية؟
تتبع اليوم حكومات الدول الرأسمالية الكبرى وبنوكها المركزية سياسات تدخلية غير مسبوقة في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي أحدثتها الجائحة. هذه السياسات والمعروفة بالكينزية دائما ما تعود للواجهة مع الأزمات الكبرى. هذا ما حدث خلال الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي وما حدث أيضا خلال الركود الكبير في 2008. يتحمس بعض الباحثين والصحفيين الاقتصاديين المنتمين لليسار لمثل هذه السياسات. فنجد مقالات تشيد بالدور الأكبر للدولة (بما في ذلك تأميم مؤقت لقطاعات اقتصادية منهارة) وكأنه خطوة نحو الاشتراكية. ولكن هذه السياسات ليست فقط بعيدة كل البعد عن الاشتراكية بل أنها لم تعد قادرة حتى على إنقاذ النظام من ورطته الحالية.
فالدول تنفق التريليونات من الدولارات واليورو والين واليوان لإنقاذ الشركات والبنوك الرأسمالية الكبرى وإعادتها إلى الربحية. وحتى التأميم في هذا السياق فهو مجرد تأميم للخسائر -أي تحميل المجتمع ككل لخسائر الشركات والبنوك. فمن أين تأتي كل تلك التريليونات؟ هي تأتي بالضرورة من إيرادات المستقبل والتي عاجلا أو آجلا لابد أن تغطي الديون التي تراكمها الحكومات والبنوك المركزية اليوم. ومن يدفع ثمن كل ذلك؟ لنتذكر سياسات التقشف التي فرضتها الحكومات على الطبقات العاملة في السنوات العشر التالية للركود الكبير في 2008. وهذا بالتأكيد ما ستحاول الحكومات الرأسمالية فرضه مجددا على شعوبها بعد تجاوز أزمة كورونا.
نحتاج العودة مجددًا الى ماركس لفهم الجذور الاقتصادية للأزمة الرأسمالية لنفهم حدود السياسات الكينزية. يطرح ماركس في المجلد الثالث من كتاب (رأس المال) رؤية متكاملة حول طبيعة وأسباب الأزمة في الرأسمالية. سنتناول هنا جانبين من هذه الرؤية يمكن تطبيقهما على الوضع الحالي. الجانب الأول يتعلق بالأسباب طويلة المدى للأزمات الرأسمالية والجانب الثاني يتعلق بالائتمان وعلاقة رأس المال المالي برأس المال الصناعي والخدمي:
مصدر الربح عند ماركس كما هو معروف هو فائض القيمة الذي يستخرجه الرأسمالي من العمال خلال عملية الإنتاج. ولكن الرأسمالي الصناعي يعيش في عالم من المنافسة الشرسة. هذا يعني أن تحقيق أرباحه يحتاج منه ضخ المزيد من الاستثمارات في كل دورة إنتاج لتطوير التكنولوجيا والميكنة ولزيادة إنتاجية العمال ليتمكن من الحفاظ على نصيبه من السوق. هذا التراكم التنافسي هو مصدر الدينامية التكنولوجية للرأسمالية ولكنه أيضا مصدر طويل المدى للأزمات وسبب لفترات الكساد والركود. فهذا التراكم يؤدي، مع انتشار وتعميم التكنولوجيا الأحدث، إلى زيادة نسبة ما يستثمره الرأسمالي في الميكنة وأدوات الإنتاج بالنسبة لما يستثمره في قوة العمل. وبما أن مصدر فائض القيمة، وبالتالي الربح، هو ما يسميه ماركس العمل الحي (قوة العمل) وليس العمل الميت (الميكنة وأدوات الإنتاج)، يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى إنخفاض معدلات الربح في الصناعة الرأسمالية ككل.
وعندما تنخفض معدلات الربح في القطاعات الإنتاجية من الاقتصاد، تتجه الاستثمارات الرأسمالية إلى القطاعات الأخرى بحثا عن الأرباح. فنجد الأموال تتدفق إلى قطاعات الاستثمار العقاري والتمويلي والبورصة ويؤدي ذلك بدوره إلى المضاربة في تلك القطاعات ويبدو وكأن القيمة في تلك القطاعات سترتفع إلى الأبد وستكون مصدرا دائما للأرباح. وهنا نأتي للجانب الثاني من رؤية ماركس حول الأزمة. إرتفاع الأسعار في البورصات على سبيل المثال يخلق ما يسميه ماركس رأس المال الخيالي. فقيمة الأسهم تصل إلى عشرات الأضعاف وأحيانا مئات أضعاف القيمة الأصلية للشركة أو المؤسسة. ولكن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، فلابد للفقاعة أن تنفجر فتنهار أسعار الأسهم أو العقارات أو الأوراق المالية، وتتبخر المليارات من رأس المال الخيالي ويدخل الاقتصاد في أزمة عنيفة. هذا ما حدث في 2008 وهو ما يحدث في 2020. الوباء مفجر الأزمة الحالية ولكنه ليس السبب طويل المدى وراءها.
الحكومات تضخ التريليونات لإنقاذ البنوك والشركات من الإفلاس وتريليونات أخرى لدعم دخل السكان لتحفيز الطلب الفعال وإنقاذ الاستهلاك من الانهيار. وفي ظل عدم حدوث طفرة في ربحية وإنتاجية القطاعات الإنتاجية في الدول الرأسمالية الكبرى (الاتحاد الأوروبي، الصين، الولايات المتحدة، اليابان)، فستحاول الحكومات تحميل عبء الأزمة والديون على الطبقات العاملة من خلال سنوات قادمة من التقشف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي طه - عن موقع (الاشتراكي)
30 نيسان 2020