June 2011
15

بعض دروس الثورات في العالم العربي/ بقلم عبدالله الخريف

تم النشر بواسطة المكتب الإعلامي
شارك هذا المنشور

لقد أبرزت الثورات الجارية في العالم العربي، العديد من الحقائق التي سعت أجهزة الإعلام الامبريالية والأنظمة التبعية إلى حجبها، كما فندت العديد من النظريات التي روجت لها هذه الأجهزة والأنظمة ومن يدور في فلكها.مثل "شباب الفيسبوك " الشرارة التي أشعلت الثورة في تونس ومصر. لكن تدخل الشعوب بكل فئاتها وشرائحها بشكل عارم ومستمر، هو الذي حول الشرارة إلى نار قضت على الديكتاتوريات.صحيح أن الشباب من أبناء الطبقات الشعبية هو الأكثر تضررا من العولمة الرأسمالية وانعكاساتها الاجتماعية (البطالة، تدهور التعليم والخدمات الاجتماعية العمومية يشكل عام ...)وكما أنه الأكثر رفضا للظلم والفساد والاستبداد، لكن من الخاطئ اعتبار أن الثورات الحالية هي ثورات الشباب. فليس كل الشباب مشارك في هذه الثورات وليس الشباب وحده الذي ساهم فيها، بل كل الطبقات الشعبية.ولعل أول وأهم درس يمكن استخلاصه من هذه الثورات هو أن الشعوب هي صانعة التغيير الحقيقي، التغيير القادر على القضاء على الديكتاتوريات وفتح الطريق أمام بناء مجتمع أكثر عدلا.وكنتيجة لما سبق، فإن هذا يعني انهيارا مدويا لنظرية أن النخب هي صانعة التغيير. فالنخب، ما عدا المناضلين المخلصين لقضايا الكادحين، قد تهاوت وهرولت لتقتات من فتات الأنظمة، وأثثت في الغالب، مؤسسات ديمقراطية الواجهة أو الديكتاتوريات، وساعدت الامبريالية والأنظمة التبعية على نشر ثقافة الاستسلام والخنوع.كما أفلست نظرية أن التغيير يقوم به قائد ملهم يعي ضرورة التطور التاريخي ويستبقها. وهو تصور يحتقر الجماهير ويعتبرها قاصرة وغير قادرة على أخذ مصيرها بيدها. وهو بالتالي يؤدي في النهاية، مهما كانت النيات، إلى الديكتاتورية وزرع الإتكالية الإنتظارية وسط الشعوب. والتجارب المأساوية في العالم العربي كثيرة في هذا الصدد.وانهارت أيضا نظرية التغيير بواسطة العمليات الإرهابية، فالحركات التي تلجأ إلى الإرهاب، رغم استقطابها لنوع من التعاطف وسط فئات شعبية حين تتصدى للامبريالية والصهيونية وعملائها، عاجزة تماما على انجاز التغيير, بل إنها تبرر قمع الامبريالية والأنظمة لشعوبها باسم مواجهة الإرهاب وضمان الأمن.ويشكل إفلاس وهم التغيير من داخل المؤسسات المنتخبة أحد دروس هذه الثورات. فكل دول العالم العربي، ورغم تواجد مؤسسات "منتخبة " في أغلبها، ترزح تحت ديكتاتورية سافرة أو مزينة بتعددية زائفة، مؤطرة في الغالب بدساتير تكرس الحكم الفردي المطلق والاستبداد، وتجعل من المؤسسات المنتخبة، مجرد واجهة للاستهلاك الخارجي وإضفاء شرعية "ديمقراطية" مزيفة على الأنظمة السائدة. كما أن جل القوى التي شاركت في هذه المؤسسات، عوض أن تساهم في تغيير الأوضاع نحو الأحسن بالنسبة للأغلبية الساحقة من الشعوب،تغيرت هي لتصبح أدوات في يد هذه الأنظمة.كما أن هذه الثورات فندت أطروحة أن شعوب العالم العربي خاملة ومستكينة وخنوعة. فقد هبت هذه الشعوب، بقوة وإصرار لا يلين وشجاعة باهرة واستعداد لا محدود للتضحية والاستشهاد وقدرة هائلة على الإبداع في الشعارات وأشكال النضال والتنظيم. وهي بذلك أعطت دروسا لكل النخب القابعة في أبراجها العاجية.وتجاوزت الجماهير الثائرة كل محاولات زرع التفرقة والانقسام وسطها، رغم التعددية التي تميزها، معبرة بذلك أن ما يجمعها وهو الإطاحة بالديكتاتورية وتوفير العيش الكريم للجميع أكثر بكثير مما تريد الأنظمة اللعب عليه لتفريق صفوفها (الدين، القبيلة، الخصوصيات اللغوية والثقافية...).كما أن هذه الشعوب، وجهت صفعة لكل من كان يصورها كشعوب استبطنت وضعها الدوني وقبلت أن تكون رعية وعبرت بوضوح على أنها شعوب راشدة وناضجة، تطمح أن تنعم بالمواطنة الكاملة وقادرة على بناء أنظمة ديمقراطية حقيقية.ويشكل انتشار الحركة المطالبة بالتغيير لصالح الشعوب إلى جل دول العالم العربي، تعبيرا على أن هذه الشعوب التي تعاني من نفس المآسي (الاستبداد، الاستغلال المكثف، التفقير، الفساد...)، تعتبر أن لها مصيرا مشتركا ، ليس فقط بسبب الروابط التاريخية بينها ، ولكن بالأساس لأنها تواجه نفس الأعداء (الامبريالية والصهيونية والأنظمة التبعية). وهي بذلك (أي الشعوب) تفند بالملموس وعمليا كل الدعوات للتنكر لهذا المصير المشترك لتبرير اللجوء إلى أحضان الامبريالية والصهيونية.لقد أسقطت هذه الثورات النظريات التي دأبت على ترويجها القوى التي تسعى إلى الحفاظ غلى الوضع القائم والتي مفادها أن عصر الثورات قد ولى موظفة لتبرير ذلك التطور العلمي والعولمة الرأسمالية. فهاهو التطور العلمي ( لإنترنيت والقنوات التلفزية) يقدم أدوات هامة للجماهير الثائرة. لذلك لا بد للقوى المناضلة أن تستفيد من هذه التقنيات والأدوات وأن تطور معرفتها وتحكمها فيها.لقد أبانت الثورات الدائرة الآن أنها سيرورات تعرف في لحظات معينة قطائع. فنجاح القطيعة يتوقف، إلى حد كبير، على القدرة على بلورة شعار يكثف ويوجه السخط الشعبي ضد العدو الأكثر شراسة، وذلك لجمع أكبر قوة ممكنة وزرع التناقضات في صفوف العدو. وما أن يتم تحقيق القطيعة حتى تبرز إلى السطح تناقضات جديدة، خاصة مع القوى المتذبذبة، يجب معالجتها بشكل يضمن استمرار العركة وتطورها نحو مستويات أرقى.لقد ازدهرت تفسيرات للثورات الجارية تركز على الدور الأساسي للطبقات الوسطى. والحقيقة التي تحاول إخفائها مثل هذه التحاليل، هي أن الطبقة العاملة هي التي لعبت دورا حاسما في الثورتين التونسية والمصرية. صحيح أن الطبقة العاملة لم تلعب دورا قياديا في هاتين الثورتين لغياب حزبها المستقل. لكن لازالت الصيرورة الثورية مستمرة مفتوحة على كل الاحتمالات. وهو ما يتطلب من القوى المخلصة لمصلحة الطبقة العاملة وعموم الكادحين، أخذ العبرة مما يقع الآن وتحمل مسؤولياتها التاريخية.إن الثورات الحالية تدعونا إلى مراجعة وتدقيق تصوراتنا للعفوية والتنظيم. فالجماهير التي هبت بشكل تلقائي للنضال اكتشفت بسرعة ضرورة تنظيم صفوفها وأبدعت أشكالا تنظيمية مرنة ومناسبة لواقع الحركة. ويجب على المناضلين أن يتعلموا من الجماهير وليس أن يذهبوا إليها بنماذج مسبقة وبنظرة أبوية. إن دور المناضلين يتمثل في مساعداتها على بناء تنظيماتها الذاتية المستقلة بدون وصاية وعلى بلورة الشعارات والبرامج والأشكال التنظيمية الملائمة لكل فترة فترة. وفي نفس الآن أن ينصهروا مع طلائع النضال الشعبي ويعملوا على تأطيرها لبناء التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة وعموم الكادحين وبناء جبهة الطبقات الشعبية المؤهلة لتشكيل قيادة حازمة للنضال بديلة عن الأحزاب التقليدية التي اهترأت وأفلست.لقد لجأت الأنظمة في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، إلى تقديم بعض التنازلات على المستوى الاجتماعي. لكن الشعوب المنتفضة لم تنطل عليها هذه الحيلة وظلت متشبثة بمطلب تغيير النظام السياسي معبرة بذلك عن وعيها أن الحلقة المركزية لأي تغيير ديمقراطي حقيقي تتمثل في القضاء على نظام الديكتاتورية والفساد والتفقير وليس تحسين ظرفي وجزئي وقابل للتراجع لواقعها المعيشي.وأخيرا لا بد من التأكيد أن هذه الثورات تعلمنا أنه لا توجد خطاطة أو نموذج يكفي تطبيقه لإنجاح التغيير. فمن كل ثورة تتعلم الشعوب ومناضلوها المخلصون وفي نفس الوقت يتعلم أعداؤها. لذلك ليس هناك ثورة تشبه أخرى. إن الظرفية الثورية فترة يتسارع فيها الصراع الطبقي وتتطلب السرعة في التقاط الواقع والجواب عليه والإبداع والتحليل الملموس للواقع الملموس وليس محاولة إدخال الواقع في نموذج جاهز ومسبق كما تتطلب نفض التراخي والانتظارية والتحلي بروح المبادرة.