أحب الاستماع إلى المثقفين النخبويين، فرغم انهم في النهاية لا يقولون شيئاً ولا تصل معهم إلى نتيجة واضحة من خلال حديثهم، إلا أن لديهم قدرة فائقة على الحديث لساعات وحديثهم دائماً موشى بالعبارات والمصطلحات الإنكليزية أو الفرنسية ويرددون مصطلح Think-tank، بمعنى «خلية تفكير» أو مركز أبحاث غير ربحي أو شخصيات تفكير استراتيجي غير مرتبطة بالمؤسسة الرسمية مثل «هنري كيسنجر» ويُستخدم المصطلح أحياناً بمعنى «العصف الذهني»، كما أن حركات أيدي هؤلاء المثقفين وأصابعهم متشابهة حد التطابق، ويقحمون علاقاتهم بالمسؤولين الكبار في أحاديثهم بأي شكل، إلا أني أحب الاستماع إليهم إذ ربما ترشح من حديثهم معلومة مفيدة.ويعتمد المثقف النخبوي في معلوماته وتراثه المعرفي على ما تنشره وسائل الإعلام والدراسات الاستراتيجية الغربية، إضافة إلى علاقاته بالمسؤولين الكبار ورؤساء الدول، والميسور منهم لديه مكتب يسميه «مركز دراسات وأبحاث استراتيجية» يكدح به موظفون في البحث والصياغة وتقديم النتائج الجاهزة منها لهذا المثقف على شكل معلومات وتحليلات سياسية واستراتيجية، ولذا فمعظم مؤلفاتهم التي لا يكون لهم فضل فيها سوى وضع اسمهم عليها تكون ضخمة، وهم غالباً مدعون خاصة العرب منهم.والمثقف النخبوي ليس لديه اهتمام بالمجتمع وهمومه، وليس له دور تغييري في المجتمع، ويتعالى على الصراع الاجتماعي أي داخل المجتمع المدني ولا يهمه النظام القائم، بل يركز على الدور السياسي وليس لديه أيديولوجية أو موقف فكري ثابت.على عكس «المثقف العضوي» كما عبر عنه «غرامشي» القائد اليساري والمفكر الإيطالي الذي أعدمه موسليني، فهو يرى أن المثقف العضوي يجب أن يكون مرتبطاً بالجماهير وراغباً في التغيير وأن يعمل من أجله، فالمثقف العضوي حسب غرامشي هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في «الإصلاح الثقافي والأخلاقي»، وأن يتقن حرفته كصانع للأفكار التي قد تفيد الشعب وقضاياه الاجتماعية.ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع هو متابعتي للقاء طويل مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في قناة «سي بي سي» الفضائية المصرية، وهو يتحدث حول الأوضاع العالمية والعربية، ومع احترامي لشخصه وكتاباته وتاريخه إلا أنني اعتبره من هؤلاء المثقفين النخبويين، فمحمد حسنين هيكل كانت له علاقات مع جمال عبد الناصر ثم مع أنور السادات ولاحقاً مع حسني مبارك وأخيراً مع محمد مرسي، وصلته مع النخب السياسية الحاكمة فقط ولم يتصل قط بهموم الشعب المصري.وقد انشددت بكلي عندما بدأ يتحدث عن ان دول الخليج يتهددها خطر شديد، وكنت أظن أنني سأستمع إلى معلومة جديدة أو تحليل عميق، إلا أنه قال: «إن عدد الوافدين وبالأخص الآسيويون أكثر من عدد المواطنين وهم يشكلون قاعدة لدول آسيا في الخليج»، وهو رأي أظن أني قرأته في أحد التحليلات الغربية في تسعينات القرن الماضي.صحيح أن الخلل في التركيبة السكانية لدول الخليج تشكل مشكلة كبيرة، خصوصاً بوجود عمالة رثة غير ماهرة أو مفيدة للاقتصاد، إضافة إلى تداعيات وجودها الاجتماعي والثقافي مثل انتشار الجريمة، كما توجد أخطار إقليمية معروفة لكن دول آسيا ليس لديها وجود عسكري في الخليج ولا تريد الهيمنة على ثرواته، وليس لديها مخططات لبناء «شرق أوسط جديد»، ولا تريد إعادة ترتيب المنطقة حسب مصالحها أو ترعى العدو الإسرائيلي، فهل من الواقعي حتى لدارس أبجديات العلوم السياسية أن يرى الخطر الذي يهدد دول الخليج يأتي من الدول الآسيوية؟وليد الرجيبosbohatw@gmail.com