" سيّد هالي...إنّ توم عبد صادق وأمين، كما أنه مسيحي مخلص".
بهذهالعبارة نجح السيد شيلبي في إقناع السيد هالي بشراء عبده توم.
تمّتالصفقة ووقّع الرجلان اتفاقية البيع. وعندما علم توم بالأمر، لم يبد أي اعتراض، بلإنّه رفض الاستماع إلى دعوات التحريض على الهرب، وأذعن لقرار سيّده، مفضّلا البقاءكعبد مملوك على محاولة العيش كإنسان حر!
منرواية" كوخ العم توم"للكاتبة الأمريكية هارييت ستو.
في النصف الثاني من القرن 19، عرفت الولايات المتحدة الأمريكية أخطر أزمة داخليةهدّدت وجودها منذ إنشائها وحتى يومنا هذا.
ففيعام 1861م تولّى إبراهام لينكولن مقاليد الحكم، وأعلن عزمه تحرير العبيد، الأمرالذي أغضب ولايات الجنوب ودفعها لإعلان انفصالها عن الولايات المتحدة الأمريكية،فاندلعت الحرب الأهلية الأمريكية(1865-1861).
لميكن قرار الانفصال مستغربا أو مفاجئا، بل كان متوقعا ومفهوما، فقد كان اقتصادولايات الجنوب، آنذاك، يقوم على العبيد الذين يعملون في زراعة وتصدير القطن.وبفضلهم أصبح اقتصاد ولايات الجنوب رابع أكبر اقتصاد في العالم. لهذا لم يكنالتخلي عن العبيد ممكنا أو مقبولا في ولايات الجنوب، بعكس الحال في ولايات الشمالالتي لم يكن للعبيد تأثير كبير على اقتصادها الذي يقوم على التجارة والصناعة، ماجعل ولايات الشمال تؤيد تحرير العبيد بذريعة أن العبودية عار يشوّه وجه أمريكاويخالف تعاليم الدين المسيحي، بينما ترى ولايات الجنوب العبودية كضرورة حتميةيفرضها الواقع والمنطق والتاريخ.
كانتالأغلبية الساحقة من العبيد تعمل وتعيش وتحيا في مزارع الأثرياء البيض. وكان في كلمزرعة نوعان من العبيد؛ الأول عبيد الحقل وهم الأكثرية ويقومون بكل الأعمالالبدنية الشاقة في الحقول وفي حظائر الحيوانات حيث يأكلون وينامون.
أمّا النوع الثاني فهم عبيد المنزل وهم الأقلية، وتقععلى عاتقهم مسؤولية رعاية المنزل والطبخ والتنظيف وغسيل الملابسو"تسلية الضيوف" والعناية بأطفال سيد المنزل.
لايوجد، عمليا، فرق يذكر بين النوعين، فالعبيد يتشابهون في كل شيء. ولكن يختلف عبيدالمنزل عن عبيد الحقل في أنهم أفضل حالا، ظاهريا، فهم يأكلون فضلات طعام أسيادهمويلبسون ملابسهم القديمة، ويقومون بإملاء أوامر السيد على عبيد الحقل.
ولهذاكان بعض عبيد المنزل يترفّعون عن أبناء جلدتهم وينسلخون من كل شيء يربطهم بهم، ولواستطاعوا لانسلخوا من جلودهم السوداء.
أشهرعبيد المنزل هو العبد توم أو العم توم الذي أصبح جزأً من الفلكلور الشعبي الأمريكيالأسود، ويرمز للشخص الأسود الذي يخضع لسلطة السيد الأبيض وينحاز له ضد إخوانهالسود. أفضل من وَصف الفرق بين عبد الحقل وعبد المنزل هو الناشط الحقوقي الأسودمالكوم إكس في خطبته الشهيرة التي ألقاها في 10 ديسمبر 1963م في مدينة ديترويتالأمريكية، وفيها يقول:
"عندما يشعر السيد الأبيض بالمرض، فإن عبد المنزل يشعر، هو الآخر، بالمرض أيضا. بلإنه يتألم بقدر أكبر من السيد المريض. بينما يدعو عبد الحقل الله أن يموت السيد فيمرضه.
وعندماتشتعل النار في منزل السيد، فإن عبد المنزل يعرّض نفسه للخطر من أجل إنقاذ المنزل،بينما يبتهل عبد الحقل كي تهب رياح قوية تزيد من التهام النيران للمنزل.
إذاقيل لعبد المنزل: هيا بنا لنهرب من هنا.
فإنهسيقول: إلى أين؟ كيف سأحيا بعيدا عن السيد؟ من سيعتني بي؟ ماذا سألبس؟
أمّاعبد الحقل فسيرد فورا ودون تفكير: هيا.. لنهرب من هنا حالا".
ولعلأفضل من جسّد دور عبد المنزل هو الممثل الأمريكي الأسود" صمويل إلجاكسون" في فيلم DjangoUnchained، عندما قام بدور العبد ستيفن. كان أداؤه مذهلا إلى درجة أنه أصبحأكثر شخص أسود مكروه في تاريخ السينما.
https://www.youtube.com/watch?v=eEY_K1Tkcxg&feature=youtu.be
تذكرالمصادر التاريخية أن معظم محاولات الهرب نحو الحرية كان يقوم بها عبيد الحقل.وكانت معظم هذه المحاولات تفشل بسبب خيانة عبيد المنزل الذين كانوا يحاولون، أولا،ثني العبيد عن الهرب، فيذكّرونهم بفضائل العبودية وإيجابيات أسيادهم، وينصحونهمبالانشغال بممارسة الشعائر الدينية لإبعاد فكرة الهرب عن أذهانهم. وعندما يفشلونفي ذلك، يقومون بإخبار أسيادهم بخطة الهروب!
كانت السياط تنتظر العبد الهارب أو الآبق وإذا كان السيدقاسيا فإنه قد يشنق العبد على غصن أقرب شجرة كي يراه بقية العبيد.
لميكن الموت سيئا جدا مقارنة بحياة الذل والقهر والألم التي يحياها العبيد، لكنهمكانوا لا يقدمون على الانتحار خوفا من غضب الرب. فأسيادهم البيض أقنعوهم بأن الربيحب أبناءه الذين يتحملون الأذى ويصبرون على العذاب، وكلما كان صبرهم في الحياةأقوى، كانت مكافأة الرب لهم، في الآخرة، أكبر وأعظم.
كانعبيد المنزل ينصحون عبيد الحقل بالصبر. ولم يكن ذلك بدافع المحبة أو الإخلاص،وإنما لأنهم يرون أن محاولة عبيد الحقل المتكررة للهرب، ستهز ثقة أسيادهم بهم، وقديؤدي ذلك إلى طردهم وتحويلهم من عبيد منزل إلى عبيد حقل. لهذا كانوا ينصحون عبيدالحقل بعدم رفض الأوامر أو التمرد أو الثورة. وينصحونهم باللجوء إلى القضاءالأمريكي المشهور بـ"العدالة والنزاهة والإنسانية"، فصدّقهم بعض السذّجمن عبيد الحقل الذين لجؤوا للقضاء. كان لمعظم القضاة مصالح مشتركة مع السلطات،بالإضافة إلى أنهم من ملّاك العبيد، ولهذا كانت الأحكام تصدر، دائما، ضدالعبيد، بل وتؤسس سوابق قانونية خطيرة جدا مثل أن العبيد ليسوا بشرا ولهذا لا يحقلهم مقاضاة البشر. أو أنهم يُعتبرون ضمن ممتلكات أسيادهم فيصبح من حق الأسياد فعلما يشاؤون بهم. وقد يرفض القاضي الدعوى لعدم الاختصاص. وقد يحدث، في حالات نادرة،أن يتعاطف القاضي مع مأساة العبد لكن هذا التعاطف لا يدفع القاضي إلى أن يصدر حكمهلصالح العبد، بل قد يضطره، في أفضل الأحوال، للتنحي عن القضية.
في9 أبريل 1865م انتهت الحرب الأهلية بانتصار ولايات الشمال، وإعلان تحرر العبيد.وكان هذا الإعلان بمثابة دستور جديد يساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عنألوانهم وأعراقهم.
عمّتالأفراح مزارع الولايات الجنوبية حيث يعيش 4 ملايين عبد، غادر معظمهم باتجاهالشمال على عجل، وكأنهم يغادرون عالم العبودية للأبد. ولكنهم اكتشفوا، فيما بعد،أن الحلم بالحرية أسهل كثيرا من ممارستها والعيش فيها.
لميستطع المُحرَرون العيش مستقلين خصوصا وأن السلطات الأمريكية لم تقم بواجبهافي حمايتهم وإيوائهم وتوفير فرص العمل لهم!
فعادواإلى مزارع العبودية التي قضوا حياتهم بها وهم يحلمون بمغادرتها.
رفضالأثرياء والإقطاعيون (ملّاك العبيد السابقين) أن يدفعوا لهؤلاء العائدين أي أموالمقابل عملهم لديهم. وفي ذات الوقت، لم يعد بإمكانهم إجبارهم على العمل كعبيد مرةأخرى، لأن جميع قوانين العبودية قد أُلغيت فور انتهاء الحرب، ما عدا قانون واحد هوقانون العقوبات المخصص لجرائم العبيد. استغل العنصريون وملّاك المزارع هذا القانونللالتفاف على قوانين تحرير العبيد الصادرة حديثا.
تمذلك عبر قيام سلطات ولايات الجنوب باستحداث تُهم جنائية جديدة تستهدف السود دونغيرهم. مثل: البصق على الأرض، المشي بجانب سكك القطارات، البيع بعد حلول الظلام،شرب الخمور، التكلم في الأماكن العامة بصوت عال، عدم التنحي عن الرصيف لإفساحالطريق للبيض إلخ.
كانت أقل عقوبة لأي من هذه التهم؛ قضاء عدة سنوات فيالسجن.
خلالمدة وجيزة، بلغت نسبة السجناء السود في سجون الولايات الجنوبية 90% من مجموعالسجناء.
بعدذلك، صدر قانون جديد يجبر السجناء، خلال تنفيذ محكومياتهم، على العمل خارج السجن.وبطبيعة الحال كانت مزارع القطن هي الأماكن الأكثر استفادة من هذا القانون.
وممايجب الإشارة إليه هنا هو أن السجون كانت تكتظ بالسجناء السود عند اقتراب موسم جنيالقطن!
ونتيجةلذلك فقد ازدهرت زراعة القطن من جديد، وانتعش الاقتصاد العنصري مجددا.
انقرضت، اليوم، عبودية اللون من العالم تقريبا. وبقيت عبودية الروح أو العبوديةالمختارة كما وصفها الفيلسوف الفرنسي إتيان دو لابويسي في كتاب العبودية المختارة.
وهيالعبودية التي اختارها العم توم عندما قرر عدم التمرد والثورة على معاملته كسلعةيشتريها ويبيعها من يملك المال والسلطة.
ظنالعم توم أن خضوعه وإذعانه واستسلامه ستكفل له حياة لائقة، ولم يعلم أن لا قيمةلحياة العبد.
ولهذامات متأثرا بجراح عميقة أُصيب بها بعد أن جلده مالكه الجديد بالسياط!
عبدالهاديالجميل