لقاء أجراه الزميل مرزوق النصف مع أستاذ الاقتصاد البروفيسور جيمس كروتي
الاقتصادي الذي تنبأ بأزمة 2008 الاقتصادية العالمية يعلّق على تبعاتها
البروفيسور كروتي: التقشف ليس الحل لأزمة الديون السيادية وشركات التمويل الضخمة تبتز العالم
أمهيرست، الولايات المتحدة
8 نوفمبر 2011
البروفيسور جيمس كروتي هو أستاذ الاقتصاد في جامعة ماساتشوستس بمدينة أمهيرست الأميركية وهو متخصص في مجالات الاقتصاد الكلي والتمويل وله أبحاث عدة حول مفكرين اقتصاديين أهمهم جون ماينارد كينز وهايمن مينسكي وكارل ماركس، وقد نجح البروفيسور كروتي في أن يكون ضمن الشخصيات المعدودة حول العالم التي تنبأت بأزمة 2008 الاقتصادية العالمية التي هي أسوأ أزمة تضرب الاقتصاد العالمي منذ ثمانين عاما، حيث حذر من قرب الأزمة قبل أكثر من عام على وقوعها وبتفصيل نادر، ومنذ وقوع الأزمة وهو يكرس كتاباته لنقد الحلول التي تقدمها الحكومات الأوروبية والأميركية للأزمة مركزا على الدفاع عن مصالح المواطنبن العاديين في تلك المجتمعات وعلى بناء اقتصاد دولي عادل وقوي يمنع وقوع أزمات جديدة، هذا هو اللقاء الأول الذي ينشر باللغة العربية مع البروفيسور حيث يناقش فيه آراءه في سياق أزمة الديون السيادية الأوروبية والأميركية وردود الفعل السياسية عليها.
جذور الأزمة الأوربية والعالمية
1- هل أزمة الديون السيادية الأوروبية مرتبطة بأزمة 2008 الاقتصادية العالمية؟
نعم، الأزمتان مرتبطتان بالشكل الآتي، في عام 2008 بدأت المشاكل مع الانهيار المالي الذي كان سببه مبالغة شركات التمويل في تحمل المخاطر وفي الاستدانة، إلى جانب التضخم في التعامل بالأصول المالية الغامضة وغير المأمونة مثل المشتقات derivatives ، هذه المشاكل كانت السبب المباشر في وقوع الأزمة التي أدت لاحقا لتراجع النشاط الاقتصادي وبالتالي تراجع مدخول الضرائب للدول وارتفاع العجز في ميزانياتها، هذه الظروف المثيرة للقلق تؤدي لارتفاع معدلات الفائدة وبالتالي تضر بالنشاط الاقتصادي على المدى القريب.
التراجع الاقتصادي هذا هو مجرد الحلقة الراهنة من مرحلة طويلة من النمو البطيء ومعدلات البطالة العالية في دول الشمال ]أي الدول الغنية مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية التي يقع أغلبها شمال الكرة الأرضية[، هذا التراجع جنبا إلى جنب مع نظام ضريبي رجعي يخفض الضرائب على الأثرياء كانا قد أديا أصلا لارتفاع العجز في ميزانيات معظم دول الشمال حتى قبل أن تضرب الأزمة في 2008، في الولايات المتحدة بشكل خاص فإن هذه المرحلة بدأت مع إدارة الرئيس الأميركي المحافظ رونالد ريغان عام 1981 حيث شهدنا انخفاضا في معدل نمو الاقتصاد وارتفاعا في الدين العام، والفترة ما بين 2001 و2008 كذلك شهدت أضعف نمو للاقتصاد الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية.
إلى جانب هذه الصعوبات الاقتصادية التي كانت كامنة قبل أزمة 2008 فإن مختلف الدول حول العالم شعرت بضرورة إنقاذ قطاع التمويل ما إن وقعت الأزمة منذ ثلاثة أعوام، وذلك حتى تمنع انهيارا كاملا في النظام الاقتصادي العالمي وكسادا عالميا كان محتملا، عملية إنقاذ قطاع التمويل هذه تطلبت مبالغ ضخمة، وقد قدّر البعض أن كلفتها قاربت 12 تريليون دولار كرسّت لدعم قطاع التمويل الأميركي، الدول طبعا وفرت هذه المبالغ عن طريق الاستدانة من الأسواق المالية، أي أن الدولة باتت مديونة للأسواق المالية التي قامت الدولة نفسها بإنقاذها.
هناك سبب آخر لازدياد العجز في ميزانيات الدول وهو أنه في أوقات الأزمات الاقتصادية فإن الحكومة هي الجهة الوحيدة التي لديها القابلية للإنفاق وتحريك الاقتصاد، ذلك لأن المستثمرين قلقون من أوضاع الأزمة ومتأثرون بها بحيث أنهم لن يستثمروا أموالهم، والمستهلكون كذلك يعانون من أجور منخفضة ومن البطالة فلا يمكنهم الإنفاق بشكل كافي على استهلاكهم، القطاع الوحيد إذن الذي يستطيع زيادة إنفاقه وتعويض الناقص من الطلب هو الحكومة، لكن في ظروف الأزمة فإن إنفاق الحكومة يكون على شكل عجز في الميزانية في المدى القريب، هذا ومن المهم التأكيد على أن هذا العجز في الميزانية في الوقت الحاضر يؤدي لتحريك الاقتصاد وزيادة الإنتاج والدخل وبالتالي تخفيض العجز على المدى البعيد، فلا مبرر للتوجس المبالغ فيه من ازدياد حجم العجز في الميزانية العامة في ظروف مثل التي نعيشها اليوم.
باختصار إذن فإن أزمة الديون السيادية في كثير من البلدان كانت كامنة قبل عام 2008 لكن انفجار الأزمة جعل الوضع أكثر سوءا.
2- البعض يفسر أزمة 2008 بأنها نتيجة جشع المستثمرين أو السياسة الخاطئة للبنك المركزي الأميركي، ما سبب الأزمة برأيك؟
كما قلت فإن الأزمة لها بعد تاريخي، منذ السبعينات انهارت في دول الشمال نظم النمو الاقتصادي القائمة على الديمقراطية الاجتماعية social democracy عندما شهدنا معدلات بطالة ومعدلات تضخم عالية وتراجعا في أسعار الأسهم وانهيارات في البنوك، في هذه الظروف وقع تحول سياسي مفصلي مع انتخاب المحافظًين مارجريت ثاتشر لرئاسة الوزراء في بريطانيا وانتخاب رونالد ريغان لرئاسة الولايات المتحدة.
اتخذت آنذاك حكومتا بريطانيا والولايات المتحدة سلسلة من السياسات التي كانت بمثابة إعلان حرب ضد الديمقراطية الاجتماعية، أمثلة على هذه السياسات هي مهاجمة اتحادات العمال وتحرير الأسواق المالية والقطاع الخاص من الرقابة وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية وخفض الضرائب على الأثرياء وإزالة القيود التي كانت تحكم تنقل رؤوس الأموال والاستثمارات بين الدول، حصيلة هذه السياسات كانت معدلات نمو بطيئة للاقتصاد وزيادة في معدلات البطالة وانخفاض في معدل المساواة بين الدخول وارتفاعا في مستوى الديون العامة.
السبب الوحيد لوجود أي نمو اقتصادي في فترة ما بعد الثمانينات هو استدانة الأسر الأميركية للحفاظ على مستوى استهلاكها في الوقت الذي تجمد فيه مدخولها، فبعد أن كان متوسط دخل الأسرة الحقيقي يرتفع سنويا بمعدل 2.4% في الفترة ما بين 1950 و1979 فإن معدل النمو هذا انخفض لمجرد 0.04% سنويا في الفترة ما بين 1979 و2009، في نفس الفترة تقريبا ما بين عامي 1979 و2007 فإن أغنى 1% من الأسر الأميركية حصلت على نسبة من نمو الدخل تفوق نسبة أفقر 90% من المجتمع ]انظر الرسم البياني[، هذا وضع لم يكن ممكنا تصوره أو قبوله قبل حكم ريغان وثاتشر.
أضف لهذه السياسات ما ذكرناه عن الانخفاض طويل الأمد في معدلات النمو الاقتصادية وكذلك دور قطاع التمويل في تفجير أزمة 2008 ويكون الاستنتاج هو أنه حتى لو قمنا بتقييد قطاع التمويل وتشديد الرقابة عليه، وهو الأمر الذي لا يبدو أنه سيتحقق، فإن السؤال يبقى كيف سنتمكن من جعل الاقتصادات المتقدمة تنمو بحيث تستفيد غالبية المجتمع من هذا النمو حتى يمكنهم تحمل تكاليف المعيشة الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم ]حيث أن هذه الخدمات غير متوفرة مجانا في الولايات المتحدة[.
استشعار الأزمة
3- كيف تمكنت من التنبؤ بأزمة 2008 قبل أكثر من عام من تفجرها، ولماذا فشل معظم الاقتصاديين في التنبؤ بها؟
بالنسبة لحكايتي مع هذه النبوءة فهي بدأت حوالي عامي 2004 و2005 عندما بدأت بالاهتمام بالأسواق المالية، حيث استوعبت بأن شركات التمويل خلقت كمية هائلة من الأصول المالية الخطرة مثل Collateralized Debt Obligations وCredit Default Swaps ، أسعار هذه الأصول كانت مرتفعة ومبنية على فرضية أن قطاع التمويل والقطاعات غير المالية سيستمرون في النمو والاستقرار لأمد غير محدود، عندما رأيت حجم هذه الأصول المالية والمبالغة في تسعيرها استوعبت في 2006 أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر ونشرت استنتاجي هذا، وبالفعل انفجرت فقاعة المضاربات في قطاع البناء الأميركي وأدت لزيادة معدلات الإفلاس وارتفاع معدلات الفائدة مما نتج عنه وقوع خسائر عظيمة أجبرت العديد من الشركات على بيع أصولها المالية وانهيار قيمة هذه الأصول جراء الارتفاع الضخم في العرض، فكانت الأزمة التي امتدت لاحقا للاقتصاد العالمي بأسره.
في الواقع لو تمعّنت في التاريخ لوجدت أن الأسواق المالية بطبيعتها ميّالة للفقاعات والمضاربات التي تنتهي عادة بأزمات مالية، الأسواق المالية والبورصات دائما ما تتأثر بموجات من التفاؤل نتيجة تطور معين أو اكتشاف جديد في الاقتصاد الحقيقي أو في سوق الأسهم، وهذا ينتج ارتفاعا في المداخيل من التجارة بالأسهم والسندات وغيرها من الأصول المالية ويبعث الرغبة في جميع المستثمرين في السوق بأن يشاركوا في الأرباح، هذا بدوره يؤدي لتزايد المضاربات فتتكوّن الفقاعات المالية التي ترفع الأسعار بشكل لا علاقة له بالقيمة الواقعية للأصول، وما إن يستوعب الناس هذا الارتفاع غير المبرر في الأسعار حتى يسارعوا إلى بيع أصولهم المتضخمة فتنهار الأسعار وتبدأ الأزمة.
أما بالنسبة لفشل معظم الاقتصاديين في التنبؤ بالأزمة فذلك راجع إلى أن معظم النظريات التقليدية عن الأسواق المالية هي خرافات أيديولوجية، إنها عبارة عن نماذج نظرية للأسواق المالية حيث لا مجال للخطأ، على سبيل المثال فإن هذه النظريات تفترض أن الناس تعرف ما سيحدث في المستقبل ولا يمكن أن تبالغ في تحمل المخاطر، هذا يعني بأنه لا توجد آلية ذاتية لإنتاج الأزمات المالية، بالنسبة لهذه النظريات فإن المشاكل لا يمكن أن تأتي إلا من ما يسمى "الصدمات الخارجية exogenous shocks" وكأننا نتحدث عن مذنّب من المريخ يأتي ليدمر وول ستريت! الهدف من النظريات المالية التقليدية أيديولوجي وهو إثبات أن الأسواق الحرة غير المقيدة تعمل بطريقة جيدة، فكيف إذن للاقتصاديين الذين يؤمنون بهذه النظريات أن يروا أزمة تنتج من قلب هذه الأسواق التي يقدّسونها؟
4- في بحوثك كثيرا ما تقتبس من وسائل الإعلام التي تتخصص في التجارة والاقتصاد، مثل صحيفة الفاينانشل تايمز ومجلة الإيكونوميست، لماذ تفعل ذلك علما بأن معظم الاقتصاديين الأكاديميين يركزون على الاقتباس من بحوث زملائهم وليس من وسائل الإعلام؟
أقوم بللجوء لمثل هذه المصادر الإعلامية لأن معظم الدراسات الاقتصادية الأكاديمية غير مفيدة، ذلك أنها مبنية على تصورات خيالية عن حقيقة الاقتصاد ودور الأسواق، فأذهب للصحافة الاقتصادية المتخصصة لأنها تكتب للأثرياء وللمؤسسات الاستثمارية، وأولئك يبحثون عن فرص استثمارية وبالتالي فالصحافة الاقتصادية توفر لهم المعلومات المهمة، أي أنهم يحاولون إيصال حقيقية الاقتصاد لهم.
كما أن لي مصدرا آخر مهما للمعلومات وهو أصدقائي في قطاع التمويل والذين يرسلون لي بعض التقارير التي ترسلها المؤسسات المالية لزبائنها لتشرح لهم التطورات في الأسواق المالية، هذه التقارير أجدها مفيدة جدا.
حروب التقشف
5- بالنسبة لأزمة الديون السيادية الأوروبية، في اليونان مثلا، ما رأيك بالتفسيرات الثقافية لهذه الأزمة، أي أن يقول البعض بأن سبب إفلاس الدولة اليونانية هو أن اليونانيين شعب غير منتج وحكومتهم متهورة في إنفاقها وسبب ذلك هو الثقافة اليونانية التي تشجع على الخمول أو الراحة، وذلك على عكس ألمانيا التي لا تعاني من أزمة في ديونها السيادية لأن الألمان يعملون بجد وينتخبون حكومات مسؤولة؟
أعتقد بأنه من الخطأ التركيز كثيرا على الجانب الثقافي، هناك اختلافات ثقافية بين الدول بالطبع لكن يجب الحذر عند مناقشة هذا الموضوع، هناك تاريخ طويل من العنصرية والاستعمار مبني على حجج واهية مثل أن أصحاب البشرات الداكنة أو الذين يعيشون في مناخات حارة لا يميلون للعمل الجاد وما إلى ذلك من أفكار عنصرية.
الموقف الألماني الرسمي هو أن الألمان يعملون بجد ويدّخرون الكثير ويتصرفون بمسؤولية، ولو اقتدى الجميع بهم لما كانت أوروبا تعاني من المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الآن، المشكلة في هذا الموقف هو أن الاقتصاد الألماني مبني على التصدير، أي أنهم ينتجون أكثر مما يستهلكون ويصدّرون الفرق، لكن هذا يعني بأنه لا بد أن يكون هناك مستوردون لهذه الصادرات، أي أنه لا بد أن تكون هناك دول تستهلك أكثر مما تنتج وتستورد الفرق، مثل اليونان، ألمانيا إذن تنتقد الدول التي تستورد منتجاتها، لكن لو أن جميع الدول الأوروبية كانت مثل ألمانيا لما وجدت ألمانيا أحدا يستورد منتجاتها ولعانى اقتصادها جراء ذلك!
يجب أن نستوعب حقيقة مهمة وهي أن الشعب اليوناني قد تم نهبه من قبل حكوماته المتعاقبة ومن قبل نخبته الرأسمالية التي تسيطر على هذه الحكومات، اليونان مثل كثير من الدول محكومة فعليا من قبل أوليجاركية[1] من الأثرياء، هذه الأقلية الثرية وضعت نظاما يسمح لنفسها بالتهرب من الضرائب وبنقل أموالها عبر البحار لإخفائها أو استثمارها في الخارج، على سبيل المثال معظم كبار صناع السفن اليونانيين المعروفين حول العالم لا يسجلون أساطيلهم البحرية في اليونان بل في دول تعفيهم من الضرائب، إضافة إلى أن هذه الأوليجاركية الحاكمة في اليونان لم تعمل على تحقيق أي سياسة تنموية معقولة في البلاد، لذلك فما إن ضربت الأزمة العالمية حتى تكشفت هشاشة الاقتصاد اليوناني وحتى سارعت الحكومة على العمل من أجل فرض سياسة التقشف، علما بأن الأقلية الحاكمة لن تتأثر بشكل جدي بهذه السياسات بسبب ثرواتها الهائلة غير الخاضعة للرقابة، إن ضحايا الأزمة هم من يدفعون ثمنها بينما المتسببين بالأزمة ينظرّون حول أهمية التحلي بالمسؤولية وعدم الهروب من الواقع.
6- على ذكر سياسات التقشف، ما رأيك بها كحل لأزمة الديون السيادية الأوربية وفي مناطق أخرى من العالم؟ هذه السياسة مبنية على فرضية أن الشعب ممثلا بحكومته هو من تسبب بالأزمة بسبب عدم إنتاجيته وبسبب إنفاق الحكومة المبالغ فيه والتالي فإن الحل هو في زيادة الإنتاجية وتقليل الإنفاق، أي التقشف.
دعني أكون واضحا، سبب الأزمات في دول الشمال اليوم هو النخب الثرية التي أخرجت ثرواتها من البلاد وأفرغت الاقتصادات من محتواها المنتج واستفادت من الفقاعات المالية التي كانت السبب المباشر في أزمة 2008.
الوضع متشابه في الولايات المتحدة حيث أعيش، معظم النقاشات السياسية حول العجز في ميزانية الحكومة تركز على كيفية تقليل الإنفاق الحكومي على أمور مثل الضمان الاجتماعي وبرنامج الرعاية الصحية للمسنّيين Medicare ، لكن الضمان الاجتماعي لم يتسبب في دولار واحد من العجز وليس لدينا عدد مبالغ فيه من موظفي القطاع العام أو أجور مبالغ فيها لهؤلاء الموظفين، لبّ الموضوع هو أنه لدينا أقلية أوليجاركية تهيمن على نقاشاتنا السياسية وهم يريدون استغلال أزمة الديون السيادية لتقليص حجم الضمان الاجتماعي وحجم القطاع العام، هذه ليست ظاهرة جديدة لأن القوى المحافظة تحاول منذ عقود خنق الديمقراطية الاجتماعية الأميركية[2] ، المواطنون الأميركان العاديون لم يتسببوا بهذه الأزمة، وبالتالي فمطالبتهم بالتقشف لا مبرر منطقي لها، لو كنا نتحدث في سياق ديني مثلا لأمكننا وصف دعوات التقشف هذه بأنها غير أخلاقية لا بل وشريرة.
7- لكن حتى لو سلّمنا بأن المواطنين العاديين لم يتسببوا مباشرة بالأزمة يظل بالإمكان القول بأنه لا حل للأزمة دون سياسة تقشف صارمة تعالج الاختلالات العميقة في الاقتصاد، السؤال هنا هو هل يمكن أن تعالج سياسات التقشف أزمة الديون السيادية؟
المروّجون لسياسات التقشف يؤمنون بأن الارتفاع في العجز الحكومي خطر على الاقتصاد ويؤمنون في نفس الوقت بأنه لا يجب أن ترفع الضرائب على ذوي الدخول المرتفعة لتغطية هذا العجز بل الواجب تقليل الإنفاق، هذا هو محتوى وصفة التقشف، أما بشأن السؤال حول الكيفية التي من المفترض أن يساعد بها التقشف الاقتصاد فإنها أقرب لللغز، يؤمن بعض الاقتصاديين بأن سبب استمرارنا في الأزمات منذ 2008 هو أن المستثمرين لا يستثمرون بشكل كاف لأنهم قلقون من أثر العجز الحكومي على مستقبل الاقتصاد، وبالتالي لو قللنا العجز عن طريق التقشف فسنزيد من ثقة المستثمرين وندفعهم للاستثمار مما سينعش الاقتصاد.
لكن أي شخص عقلاني يتابع الوضع الحالي سيقول بأن السبب وراء ضعف الاستثمار هو ضعف الطلب، والمقصود بالطلب هنا هو ببساطة الإنفاق على السلع والخدمات، لماذا تستثمر للإنتاج في المستقبل ولا يوجد طلب لمنتجاتك في الوقت الحاضر ولا تعلم متى سينتعش الطلب في المستقبل؟ هناك قدرة إنتاجية مرتفعة في كل مكان في الاقتصاد تقريبا لكن لا يوجد الطلب الكافي للاستفادة من هذه القدرات، هذه هي المشكلة الحقيقية التي تجب معالجتها.
بعد الثورة الكينزية[3] في الاقتصاد التي وقعت في أعقاب الكساد العظيم في ثلاثينات القرن العشرين آمن معظم الاقتصاديين بأنه على الحكومة التدخل بقوة عبر الإنفاق وتوظيف الناس في أوقات الأزمات حينما يمتنع القطاع الخاص عن ذلك، حيث أنه في أوقات الركود الاقتصادي يمتنع المستهلكون والمستثمرون عن الإنفاق مما يعني بأنه لا فرصة للاقتصاد للانتعاش، وبغير وجود زيادة في الصادرات فإن الحكومة هي المصدر الوحيد القادر على الإنفاق ومساعدة الاقتصاد على النمو، وأفضل طريقة لتدخل الحكومة اليوم هو في الإنفاق على المشاريع المفيدة مثل البنية التحتية ومصادر الطاقة الصديقة للبيئة.
في حال لم تقم الحكومة بالتدخل بهذا الشكل فإن الاقتصاد قد يستمر في الركود لأمد غير محدود، وفي حال استمر الركود فإن ديون الحكومة ستزيد لأن مداخيل الضرائب ستقل جراء ضعف النشاط الاقتصادي، الحكومة البريطانية تجرّب التقشف الآن وأزمتها مستمرة وعجوزاتها لا تزال في ارتفاع، الفرنسيون الآن بدأوا جولة جديدة من إجراءات التقشف لأن الجولة الأولى من التقشف لم تنجح وأدت لمزيد من العجز في الميزانية!
الخلاصة هي أنه بعد الدرس الذي تعلمناه من الكساد العظيم في الثلاثينات لم يعد كثير من الاقتصاديين مؤمنين بالتقشف، يبدو لي بأن الدعوات الحالية أكثرها أيديولوجي ويهدف لتفكيك ما تبقى لنا من مكاسب شعبية ومن ديمقراطية اجتماعية.
كينز ودور الدولة في التنمية
8- على ذكر الثورة الكينزية ودور الدولة في الاقتصاد، ما هي رؤيتك لأهمية الفكر الكينزي في ضوء الأزمة الاقتصادية الراهنة؟
التصور الدارج لفكر كينز هو أنه يدعو لتدخل الدولة في حالتين، حينما يكون الاقتصاد منطلقا بقوة مبالغ فيها فتقوم الحكومة بكبح الطلب لتهدئة الاقتصاد، والحالة الثانية حينما يكون الاقتصاد مقبلا على ركود فتقوم الحكومة بدعم الطلب لمنع الاقتصاد من الانزلاق أكثر في الركود.
لكن تفسيري لما قاله كينز فعلا بدءا من عام 1924 وحتى وفاته في 1946 هو أن الرأسمالية حينما تترك لذاتها تكون عرضة لتقلبات خطرة ولأزمات حادة، لقد كان كينز مؤمنا بأن على الدولة أن تراقب وتوجه النشاطات الاستثمارية للحفاظ على النمو الاقتصادي ومستويات التوظيف، فهو كان يدعو لأن يكون للدولة دور قيادي ودائم في الاقتصاد وليس فقط دور المنقذ في الأوقات الاستثانئية، بل إنه قال بأن على الدولة أن تقيّد أو تتحكم بثلثي إلى ثلاثة أرباع جميع الاستثمارات الرأسمالية داخل حدودها، وصاغ هذه الفكرة في عدة كتابات وفي عدة أماكن من كتابه الأشهر "النظرية العامة The General Theory".
كينز كان واعيا بأن الدولة لو قامت بالسيطرة على معظم القرارات الاستثمارية في البلد فإن ذلك سيخيف الطبقة الرأسمالية ويدفعها لإخراج ثرواتها خارج البلاد هربا من تدخل الدولة، مما سيدفع معدل الفائدة للارتفاع وسيخفض معدلي النمو الاقتصادي والتوظيف، الحل الذي اقترحه كينز هو ببساطة قيود صارمة على تنقل رؤوس الأموال، أي أن الأفراد والمؤسسات لا يستطيعون نقل مبالغ ضخمة من أموالهم خارج البلاد دون موافقة الحكومة.
جدير بالذكر أيضا أن كينز كان يؤيد التجارة الدولية المقيدة وليس الحرة.
9- في بحوثك التطبيقية ركزت على دراسة تجربة كوريا الجنوببية الاقتصادية ودور الدولة في التنمية، ما هي العبر التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة؟
نموذج التنمية الشرق- آسيوي لا يزال يعتبر أفضل نموذج للتنمية في التاريخ الحديث، حينما بدأت كوريا الجنوبية عملية التنمية في عام 1961 كان نصيب الفرد من ناتجها القومي نصف نصيب الفرد في دولة جابون الأفريقية، ماذا فعل الكوريون الجنوبيون إذن للوصول لما هم عليه اليوم من تطور ورخاء؟ أولا أغلقوا اقتصادهم في وجه المستثمرين الأجانب، لو أنهم فتحوا اقتصادهم في بداية مرحلة التنمية لجاءت الشركات الأجنبية واستحوذت على القطاعات الناجحة في الاقتصاد وأدارتها لتحقيق أعلى ربح لملاكها الأجانب وليس لتحقيق المصلحة الوطنية بتنمية مستدامة للاقتصاد تفيد أكبر شريحة من المجتمع.
ثانيا شرعت الدولة في الاستثمار بقوة في التعليم الأساسي، ولاحقا استثمرت في مرحلة التعليم الثانوي ومن بعدها في الجامعات، فأحد أهم أبعاد تجربة التنمية الكورية الجنوبية كانت الاستثمار فيما يسمى "رأس المال البشري."
ثالثا تم وضع خطة مُحكمة لقيادة التنمية تحت إدارة الدولة، فالدولة كانت تقرر في أي صناعة سيتم الاستثمار وفي تلك الصناعات أي من الشركات ستكون القيادية بين نظيراتها، لم يترك الكوريون الجنوبيون مثل هذه القرارات للأسواق، بل إن الدولة كانت تتحكم حتى في البنوك وتحدد أسعار الفائدة التي يمكن للبنوك فرضها على مختلف القطاعات والشركات، كما أن الدولة وضعت إجراءات لضمان أن الشركات المستفيدة من الدعم العام كانت منتجة وتنافسية، فالدولة مثلا كان لديها ممثلون في إدارات تلك الشركات لضمان تشغيل الشركات بكفاءة، وحينما تصل منتجات الشركات الوطنية لمستوى معين من الجودة فإن الدولة تفرض عليهم تصدير نسبة معينة من منتجاتهم للتأكد من أن جودة المنتجات يمكن أن تنافس ما هو متوافر في الأسواق العالمية، ودافع آخر للتصدير كان الحصول على عملات أجنبية لاستيراد المعدات والمواد الخام.
في نفس الوقت يجب أن لا ننسى بأن كوريا الجنوبية في تلك الفترة اضطهدت عمّالها سياسيا، كانت مواقف الدولة سيئة جدا في هذا المجال، لكنها أيضا ضمنت زيادات في الأجور متناسبة مع الزيادات في الإنتاجية، فما بين عامي 1961 و1996 زادت معدلات الأجور الحقيقية سنويا بنسبة 7% وهي نسبة النمو السنوي في الاقتصاد، وهو ما خلق حسا لدى الطبقة العاملة بأنها تشارك في الخيرات التي تنتجها كما ضمن زيادة في الطلب المحلي متوافقة مع الزيادة في القدرات الإنتاجية.
هناك العديد من الاقتصاديين الذين وثّقوا حقيقة أنه بالكاد توجد دولة في العالم نجحت في التنمية في مراحلها الأولى عبر اتباع النموذج النيوليبرالي القائم على رفع القيود عن التجارة الدولية وعن تنقل رؤوس الأموال بين الدول، ومن هؤلاء البروفيسور ها جون شانج ]من جامعة كيمبريدج البريطانية [والبروفيسورة أليس أمسدين ]من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT [، التاريخ يشهد بأنه لا يمكن تحقيق التنمية في المراحل المبكرة من النمو الاقتصادي عبر وصفة السوق الحرة، لا الأميركان ولا البريطانيين فعلوا ذلك في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولا يجب أن يحاول أحد فعل ذلك لأنه لن ينجح.
المؤسسات الاقتصادية الدولية والمصالح المتناقضة
10- السياسات الاقتصادية التي تدعو لها تبدو مناقضة لنصائح كبرى المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والتي عادة ما تنصح الدول بفتح اقتصاداتها على السوق العالمية بأسرع وقت وخصخصة معظم قطاعات الدولة والاعتماد على آلية السوق كمحور للاقتصاد، إذا كانت هذه السياسات سيئة كما تدّعي فلماذا تنصح بها هذه المؤسسات؟
هذا سؤال مثير، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يعكسان رؤية الولايات المتحدة ومجموعة الـ G7 والبنوك والشركات متعددة الجنسية، العاملون في هاتين المؤسستين قد لا يعتقدون بأنهم يعملون في خدمة مصالح هذه الدول والشركات لكن خدمة هذه المصالح هو ما يقومون به فعليا.
الأزمات هي المدخل الرئيسي الذي يستغلانه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للتدخل في شؤون البلدان النامية التي حققت بعض النجاح في التنمية تحت قيادة الدولة، فما إن تواجه أي من هذه الدول مشاكل اقتصادية صعبة، خصوصا مشاكل تتعلق بالدين الخارجي، حتى يتقدم صندوق النقد الدولي ويعرض قروضا على هذه الدول بشرط أن "تصلح" من اقتصادها، وصفة "الإصلاح" هذه هي ما يعرف باسم "برنامج التكييف الهيكلي Structural Adjustment Program".
برنامج التكييف الهيكلي ينطوي على تفكيك للسياسات والمشاريع التي جعلت اقتصاد الدولة ناجحا، فالبرنامج يدعو لفتح الاقتصاد أمام اختراق الشركات والبنوك الأجنبية ويدعو كذلك لخصخصة القطاع العام، لكن هذه السياسات تجعل الاقتصاد مرتهنا بيد رأس المال الأجنبي والذي ما أن يقبل الاقتصاد على صعوبات جديدة حتى يهرب رأس المال هذا خارج البلاد مسببا أزمة حادة في السيولة، وهو ما يجبر الدول على قبول مزيد من التدخل من صندوق النقد الدولي حتى تنقذ نفسها من المشاكل التي باتت الآن أعمق بسبب هشاشة الاقتصاد وعدم قدرة الدولة على إدارته، وهكذا دواليك تتوالى الصعوبات حتى تصل لمرحة الأزمة العميقة كما حدث في الأزمة الآسيوية في عام 1997 .
وفقا لبعض التقديرات فإنه في عام 2000 كان 40% من سكان العالم موزعين على قرابة 55 دولة رهن توجيهات صندوق النقد الدولي، وذلك عبر تحكم الصندوق باقتصاداتهم.
هناك جانب آخر يسمح بارتهان الاقتصادات النامية بهذا الشكل للمؤسسات الدولية، فمن النتائج التي باتت واضحة لأي عملية تنمية قائمة على آلية السوق، وإن كانت تحت إشراف الدولة، هو أن هذه التنمية تنتج نخبة طبقية من الشركات والعوائل الثرية وذات النفوذ، هذه النخبة تستبطن رغبات معينة مثل الرغبة في استيراد السلع الفارهة والرغبة في إخراج الأموال خارج الدولة، هذه الرغبات سرعان ما تترجم إلى قوة ضغط داخل الدولة مكملة لضغوط المؤسسات الدولية لإجبار الدولة على فتح الاقتصاد والتخلص من القيود على الأسواق، فهناك إذن سبب داخلي يدفع الدول للانضمام إلى فلك الاقتصاد العالمي تحت إشراف المؤسسات الاقتصادية الدولية.
11- لماذا لا تجعل تحليلاتك اقتصادية بحتة خالية من الإشارة للسياسة ودون تقسيم المجتمع لمصالح متضاربة لفئات مختلفة؟
لا بمكنك أن تفهم الأداء الاقتصادي لأي دولة دون أن تدرس سياساتها الاجتماعية والاقتصادية، ولا يمكنك أن تفهم سياسات الدولة دون أن تفهم المصالح الاقتصادية للفئات الاجتماعية المختلفة التي توجه هذه السياسات.
خذ أزمة 2008 كمثال، أحد الأسباب غير المباشرة للأزمة هو القرارات السياسية التي أدت لتحرير قطاع التمويل من الرقابة وسمحت بارتفاع معدلات التفاوت الاجتماعي في البلد، كلا هاتين السياستين سمحتا بنمو الفقاعات المالية ومن ثم انهيارها ولاحقا تدخل الدول لإنقاذ المتسببين في هذه الأزمات في أكثر من مناسبة تاريخية، هذه القرارت السياسية هي التي أوحت لكبار المتعاملين في الأسواق المالية بأن الدولة لن تتخلى عنهم مهما عاثوا فسادا في الاقتصاد وهو ما شجعهم على التهور والتسبب في كبرى الأزمات في عام 2008.
الابتزاز الهيكلي وردة الفعل الشعبية
12- أحد المفاهيم الاقتصادية السياسية التي صغتها لتفسير الأزمة هو مفهوم "الابتزاز الهيكلي Structural Blackmail"، ما معنى هذا المفهوم؟
هذا المفهوم بالنسبة إلي يمثل إحدى اللبنات الرئيسة لفهم سبب إنقاذ الدولة لشركات التمويل الضخمة مرارا وتكرار، فكما شرحت سابقا فإن هناك قرارت سياسية مهّدت لطغيان قطاع التمويل وتضخم بعض شركاته بشكل رهيب بحيث بات أداء الاقتصاد مرتبطا ارتباطا وثيقا بأداء هذه الشركات الكبرى، فما إن تضرب أزمة معينة هذه الشركات حتى تسارع الدولة لإنقاذها تحت ذريعة أن الدولة إنما تنقذ بذلك الاقتصاد بأكمله وليس فقط ملاك الشركات الكبرى، هذا نوع من الابتزاز تمارسه شركات التمويل الضخمة ضد الشعوب، وهو ابتزاز هيكلي بمعنى أنه بات مبنيا في هيكل الاقتصاد من الصعب التخلص منه، لكن يجب أن نستوعب بأن الابتزاز الهيكلي هذا ليس ظاهرة طبيعية لا فكاك منها، فالاقتصاد الأميركي لم يكن يعاني من هذه المشكلة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
يجب أن نلاحظ أيضا هنا بأن الناس العادية ليست لديها هذه القدرة على الابتزاز الهيكلي، فعندما يرتفع معدل البطالة كما هو مرتفع الآن وعندما يخسر الملايين ملكية منازلهم نتيجة إفلاسهم كما يحدث الآن في الولايات المتحدة فإن الدولة ليس لديها التزام صارم بإنقاذ هؤلاء الناس من محنتهم على عكس تعاملها مع المحن التي تعاني منها كبرى البنوك والشركات.
13- ما رأيك بحركة احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street التي ظهرت منذ شهور في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة اعتراضا على انعدام العدالة الاجتماعية وعلى ميل الحكومات باتجاه مصالح أصحاب الثراء الفاحش؟
أعتقد بأن هذه حركة رائعة لقيادة المقاومة ضد حرب التقشف التي يتم شنها على الشعب الأميركي، الذين هم من أمثالي قضوا عقودا في الحيرة والحزن جراء مراقبة التدهور في مستوى معيشة الناس العادية منذ السبعينات دون وجود ردة فعل سياسية من هذه الناس على أوضاعها السيئة.
هناك طبعا عدة أسباب لتأخر ردة الفعل حتى الآن، فالأميركان مثلا ليس لديهم حزب سياسي يمثلهم بمصداقية، الحركة العمالية دخلت في طور الضمور منذ ثلاثة عقود، ففي الخمسينات كان 35% من العمال الأميركان أعضاء في اتحادات عمالية أما الآن فهذه النسبة أقل من 12%، الاتحادات العمالية في القطاع العام أكبر من مثيلاتها في القطاع الخاص لكنها تعاني الآن من ضربات متتالية من حكام الولايات والمشرّعين الجمهوريين اليمينيين، بل إن الاتحادت العمالية تعاني من ضغوطات حتى من الديمقراطيين.
والإعلام يلعب دورا كذلك في تعطيل الصحوة السياسية، فمن المعروف أن الشركات المتعددة الجنسية تسيطر على كبرى وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، ووسائل الإعلام هذه تشرح لغالبية الناس أسباب الأزمة من وجهة نظر مُلاكها من الشركات، لذلك فالشعب الأميركي لا يعلم من تسبب فعلا بالأزمة ومن يجب أن يدفع ثمن معالجتها.
تاريخيا فإن ردات الفعل السياسية على الأزمات الاقتصادية الكبرى لا تظهر بقوة إلى بعد بضع سنوات من بداية الأزمة، في تجربة الكساد العظيم في ثلاثينات القرن العشرين لم تتبلور ردة الفعل الشعبية إلا بعد ثلاثة سنوات من بداية الكساد واليوم نشهد بداية أخرى بعد ثلاثة سنوات من وقوع أزمة 2008.
رسالة حركة احتلوا وول ستريت هي أن ظروف المعيشة سيئة لـ 99% من الشعب الأميركي بينما هي رائعة لـ 1% من الشعب، بل إن سبب المآسي التي يعاني منها الأغلبية الساحقة من الناس هو ذاته السبب الذي يسمح لـ 1% من الشعب أن يتمتع بالرفاهية الفاحشة، هناك حالة مرعبة من انعدام العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة، فمتوسط الأجر الحقيقي للعامل الأميركي الذكر لم يرتفع منذ عام 1966 وهذه حقيقة لا يزال يصعب على كثير من الناس استيعابها، كما أن طلبة الجامعات لدينا يتخرجون وعليهم قروض تصل إلى ما بين ثلاثين ألف إلى خمسين ألف دولار جراء تكاليف التعليم الجامعي الباهظة وهؤلاء الطلبة لا يجدون الآن وظائف لدفع هذه الديون، وهناك أمثلة كثيرة أخرى على الظروف المادية الصعبة التي يعاني منها معظم الأميركان اليوم.
مؤخرا نجحت الاتحادات العمالية في ولاية أوهايو في نقض تشريع قدمه الجمهوريين للحد من قدرة الاتحادات على التفاوض مع حكومة الولاية على الأجور وظروف العمل، تم هذا الانتصار بتصويت ديمقراطي ولعل ذلك يكون بداية أخرى لحركة سياسية تمثل أغلبية الشعب.
ماركس ومستقبل الأزمة العالمية
14- على ذكر حركات الاحتجاج ما رأيك بأفكار ماركس في ضوء الأزمة الحالية؟
ماركس كان اقتصاديا عظيما كما سيشهد لك كل من درسه بجدية، الاقتصادي المحافظ الشهير جوزيف شومبيتر[4] كتب بأن ماركس كان من أفضل الاقتصاديين على الإطلاق، ومن وجهة نظري فإن ماركس كان جيدا خصوصا من ناحية الإشارة لإيجابيات وسلبيات النظام الرأسمالي غير المُقيّد.
ماركس كتب مثل آدم سميث حول قدرة الرأسمالية على تحقيق تقدم هائل في ثروات المجتمعات على عكس الأنظمة الاقتصادية السابقة عليها، فالبيان الشيوعي مثلا يبدأ بمديح لمنجزات الرأسمالية خصوصا لجهة تنمية قوى الإنتاج في المجتمع.
لكن ماركس أشار أيضا لمشاكل جدية تولّدها الرأسمالية غير المُقيدّة، فهي دائما تقلل من المساواة الاجتماعية بين الناس بحيث يتزايد الفقر جنبا إلى جنب مع توفر ثروات كبيرة، وآمن ماركس بأن الرأسمالية تخلق أزماتها الذاتية التي يصعب عليها معالجتها لو تُركت دون مساعدة خارجية، كما أشار إلى عدم قدرة الرأسمالية على نوفير فرص العمل لجميع أفراد المجتمع، كذلك أوضح أن الأسواق المالية الرأسمالية لديها قابلية عالية للانفلات والتسبب بأزمات متوالية للاقتصاد.
إذن ماركس علّمنا بأن الرأسمالية لديها قابلية كبيرة لإنتاج الثروة لكنها أيضا تنتج أزمات يمكن أن تكون حادة لدرجة تهديد بقاء الرأسمالية نفسها، أي أن الرأسمالية غيرالمقيدة قد تدفع الناس للتخلي عنها بحثا عن نظام اقتصادي أكثر منها كفاءة وعدلا واستقرارا، تجربة الديمقراطية الاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين كانت خطوة في هذا الطريق بحيث أعطت الناس أملا في التجاوز التدريجي لسلبيات الرأسمالية لكن ديمقراطيتنا الاجتماعية تعاني منذ أمد من هجوم ضاري يجعلها اليوم على شفا التفكك.
15- نحن الآن في العام الثالث من الأزمة الاقتصادية العالمية، كم ستطول هذه الأزمة؟
يكاد يكون من المستحيل الإجابة على هذا السؤال لكن قد يمكننا الإشارة لبعض العلامات الدالة، يبدو مستقبل العديد من دول الشمال قاتما خصوصا في المدى القصير لأن كثير من هذه الدول لا تزال مصرّة على اتباع سياسات التقشف التي لن تعالج الأزمة بل ستزيدها حدة.
سوق العمل الأميركي في أسوأ ظروفه منذ الكساد العظيم قبل أكثر من ثمانين عاما، معدل البطالة الرسمي 9% بينما معدل البطالة الأكثر شمولا هو أقرب لـ 17%، متوسط الفترة التي يقضيها الشخص العاطل عن العمل بحثا عن وظيفة هي الأطول منذ الحرب العالمية الثانية.
الأوضاع السياسية سيئة نتيجة طغيان الأقليات الثرية والشركات الكبرى على الأنظمة السياسية في الدول المتقدمة، والنتيجة هي رفض الجكومات لمواجهة الانفلات في قطاع التمويل والتركيز بدلا من ذلك على تقليص الخدمات العامة وتحميل الناس العادية أعباء الأزمة، وهو ما سيزيد الوضع الاقتصادي العالمي سوءا.
بالنظر إلى هذه الصورة العامة لن أتفاجأ لو شهدنا استمرارا في الأزمات الاقتصادية في المستقبل، ما لا يمكنني التنبؤ به هو ما إذا كنا سنرى ردة فعل سياسية تكون كافية لمواجهة هجمة النخب الثرية على مصالح أغلبية الناس في العالم وإيقاف هذه الفئات المهيمنة عند حدها حتى نعيد التوازن للاقتصاد العالمي.
النبوءة
هذه هي الكلمات التي تنبأ بها البروفيسور كروتي بأزمة 2008، وهي الفقرات الختامية من بحث منشور في أبريل من عام 2007 حول الوضع في الأسواق المالية الأميركية[5] :
"استنتاجي هو بأن الشركات والأسواق المالية مقبلة على مشاكل، وفي المدى القريب قد تكون هذه المشاكل جدية، في المدى المتوسط قد نشهد ضغطا كارثيا، ولو حدث ذلك فسوف نرى ما إذا كانت السلطات النقدية قادرة على احتواء الأزمات، التاريخ يصرّ بأنه لا توجد هناك طفرات مالية مستدامة، لذلك أشعر بالرغبة في التنبؤ بأن هذا العصر الذهبي لن ينتهي بتباطؤ سلس بل بانفجار.
من الصعب عليّ التصديق بأن الأسواق المالية ستستمر للأبد في النمو بالمعدل العالي الذي نشهده في الفترة الحالية أو أن الشركات الضخمة التي تُتخم نفسها بالمخاطر لن تعاني من العواقب، لا أحد يعلم حجم المخاطر المخفاة في دفاتر هذه الشركات أو في هوامش بعض التقارير المالية المُبهمة.
من الصعب عليّ التصديق بأن أرباح قطاع التمويل سترتفع لأمد غير محدود مقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي أو أرباح الشركات من خارج القطاع، أو أن أصدق بأن مسؤولي شركات التمويل وغيرها من الشركات يمكن أن يُفلتوا بإثراء أنفسهم بينما متوسط الأجور لا يزال ثابتا ومستوى التفاوت الاجتماعي في ارتفاع، لعل أقرب الاحتمالات هي بأن هذه الحقبة ستنتهي بتباطؤ اقتصادي معقول لكن كما حذّر راجان[6] وغيره فإنه من الممكن أن تنتهي هذه الحقبة بانفجار، على أي حال فإنه في لحظة ما في المستقبل سينتهي الأمر برمّته."
[1] الأوليجاركية oligarchy هي نظام سياسي تحكم فيه الأقلية، وعادة ما يستخدم المصطلح كنقيض لليدمقراطية التي تحكم فيها الأغلبية.
[2] البروفيوسور كروتي لديه بحث حديث حول هذا الموضوع بعنوان "حرب التقشف العظيمة: من تسبب بأزمة العجز الأميركية ومن يجب أن يدفع ثمنها؟"، يمكن الاطلاع على هذا البحث وغيره من بحوث البروفيسور كروتي مجانا باللغة الإنجليزية عبر موقع البروفيسور الإلكتروني: http://people.umass.edu/crotty/index.html
[3] نسبة للاقتصادي الإنجليزي جون ماينارد كينز (1883-1946) الذي كان أستاذا للاقتصاد في جامعة كيمبريدج البريطانية ويعتبر من أهم المدنظرين لدور فعال للدولة في الاقتصاد.
[4] جوزيف شومبيتر (1883-1950) كان أستاذا للاقتصاد في جامعة هارفارد الأميركية ومن أشهر الاقتصاديين في عصره ومبتكر مفهوم التدمير الخلاق Creative Destruction في الاقتصاد، وكان معروفا بآرائه السياسية المحافظة.
[5] يمكن الاطلاع مجانا على هذا البحث باللغة الإنجيليزية على الرابط: http://people.umass.edu/crotty/WP134.pdf
[6] راجورام راجان هو أستاذ التمويل في جامعة شيكاجو وأحد الذين حذروا من قرب الأزمة الاقتصادية قبل وقوعها.
تم نشر جزء من هذا اللقاء في صحيفة القبس الكويتية بتاريخ 6 يناير 2012