جمدت بمكاني ولم أستطع النطق بكلمة واحدة، ولم أعرف كم من الوقت مرّ علي عندما نقل لي أحد الأصدقاء بلهجته اللبنانية: «بعرف أنه خبر حزين الك لكن لازم أنقله»، توقف قليلاً ثم قال بنبرة حزينة: «مات محمد دكروب».كيف؟!! لقد وعدني في مكالمتنا الهاتفية الأخيرة عندما كان يرقد بالمستشفى وبطريقته الساخرة والمحببة: «ما تقلق.. ما الي نيّة أموت.. أنا بحب الحياة أكتر منك»، وقد كنت أعجب دائماً من ارادة الحياة لديه واصراره بأنه صاحب مشروع لا نهائي لم يكتمل، كان يريد أن يستغل كل ثانية في حياته لخدمة الفكر المستنير والثقافة التقدمية اليسارية، في الوقت الذي تعب فيه الآخرون ويأسوا فتوقفوا، لكنه لم يتوقف اطلاقاً بل كان يريد أن يُعطى له عمران فوق عمره لعله ينهي ما بدأه منذ أربعينيات القرن الماضي، ومرت بتلك اللحظات الطويلة في ذهني وأنا أتلقى هذا الخبر الصادم كل أحاديثنا الثقافية والأدبية والفكرية والسياسية، التي لم تكن تخلو من فكاهة وسخرية محببة على نفسه وعلى الآخرين، خاصة من الذين يتعاملون مع الأيديولوجيا كعقيدة جامدة ومقدسة، بينما يرى أن الحياة والأدب والفن والنضال ابداع متجدد لا يتوقف الا بتوقف حياة البشر على هذا الكوكب على حد تعبيره.هذا الرجل الاستثنائي الذي اضطر لترك المدرسة في الثالث الابتدائي ليساعد والده في بيع الفول، هذا السمكري الذي ثقّف نفسه بنفسه والتهم كل ما كانت تقع عليه يده من كتب ومجلات، وكان نادراً ما تجده يأتي الى موعدنا في شارع الحمرا ببيروت دون أن يحمل كتاباً أو مجلة فكرية أو مقالاً تحت ابطه، يعطيها لي قائلاً: «أنصحك بقراءة الموضوع الفلاني في الصفحة الفلانية، وتجد في السطر الفلاني كذا وكذا..»، كان يشعرني بأني تلميذ صغير بين يديه ويشعرني بأهميتي في الوقت نفسه من خلال اطلاعه على كل ما أكتب، هذا الكادح أصبح مفكراً عربياً لا يمكن تجاهله، ومناضلاً صلباً لم يتخلَّ عن فكره المنحاز للفقراء والعمال والكادحين، وأصبح من أبرز مثقفي عصره الذي كان يزخر بالعمالقة أمثال الشهيد حسين مروة ومحمود أمين العالم ومهدي عامل، وكل مثقفي ومفكري وأدباء العصر الذهبي من جميع البلدان.كان محباً للحياة ولفن السينما حيث كان يتردد كثيراً على دور السينما ببيروت كي يشاهد فيلماً، فهو لا يفضل شاشة أخرى سوى الشاشة السينمائية كما فهمت منه، وكانت ابتسامته لا تفارق محياه الطفولي، كان انساناً جميلاً وعميقاً أحبه جميع من جلس معه.قبل أن تعود مجلة الطريق للصدور قال لي بشيء يشبه البشارة:» الطريق ستعود الى مكتبة المثقف العربي ونريد منك أن تشارك في هذا المشروع من خلال الكتابة»، وكان يخامرني شك بأن الطريق العريقة التي يقرب عمرها من سبعين عاماً واحتضنت الحوارات الفكرية والأدبية في يوم من الأيام يمكن أن تعود، بل تحداني دكروب بأنه سيجمع للعدد الأول ألف اشتراك، ولكن ما حدث فاق ذلك، اذ للمرة الأولى في تاريخ المجلات الفكرية يطبع العدد الأول مرتين بسبب نفاد الطبعة الأولى، في عصر لم يعد فيه المثقف والانسان العادي يكترث بالمجلات الفكرية والأدبية المطبوعة.تاريخ الراحل محمد دكروب مزدحم بالانجازات وبالمساهمات في مجلات بلورت فكرة واتجاه الواقعية الاجتماعية مثل مجلة «الثقافة الوطنية» و«مجلة الطريق» مع شركاء غير عاديين مثل كريم مروه وحسين مروه وغيرهما، الذين وضعوا الواقعية الاجتماعية في موقعها السليم مع المفكرين المصريين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وكتب محمد دكروب كتابات لا تنسى مثل «وجوه لا تموت في الثقافة العربية الحديثة» التي أصبح واحداً منها.وداعاً يا صديقي العزيز، وداعاً أيها الحكّاء المشوق والمنحاز أبداً للابداع أولاً، توقف عقلك الذي لم يكن يهدأ، رحلت شامخاً كما «السنديانة الحمراء» الضاربة بجذورها في أرض لبنان أرض المقاومة ومركز الثقافة الرفيعة والروح النضالية والمدرسة العربية التي كنت أحد أساتذتها.وليد الرجيبosbohatw@gmail.com