مجلة "الثقافة الجديدة" العراقية تحاور أحمد الديين حول قضايا الفكر الماركسي، وأزمة النظام الرأسمالي، ومستجدات الوضع الدولي، وقضايا البيئة والنفط، ومقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني
مواليد الكويت 1950، قيادي في الحركة التقدمية الكويتية، وأحد مؤسسيها وأمينها العام السابق. الأمين العام السابق للمنبر الديموقراطي الكويتي. أحد مؤسسي اللقاء اليساري العربي في بيروت عام 2010. كاتب سياسي وصحفي معروف، عمل ونشر في الكثير من الصحف منها: العامل، الوطن، الطليعة، الرأي، عالم اليوم.
مؤلفاته: المسار الديموقراطي في الكويت، الكويت، 1994؛ ولادة دستور الكويت، الكويت، 1996؛ السلف والخلف في وراثة العروش، الكويت، 2005؛ الديموقراطية في الكويت: مسارها، واقعها، تحدياتها وآفاقها، الكويت، 2005؛ أيام في ظفار، الكويت، 2021؛ أحاديث حول الاشتراكية وأزمة الرأسمالية، الكويت، 2021، وأحداث ووجوه من الذاكرة، 2021.
الثقافة الجديدة: يتفق الكثير من الباحثين والمتابعين على ان المنظومة الرأسمالية تجيش حاليا بتحديات مرحلية كثيرة. هي في نهاية المطاف انعكاس لتحولات جوانية في آليات اشتغال المنظومة ذاتها. كما ان تجلياتها الأبرز ما هي الا إرهاصات ونذر لأبعاد تطورها اللاحقة.
قبل ان نخوض في هذه المسائل، هناك قضية منهجية ضرورية يجب التوقف عندها. وهي الحاجة الى منظومة فكرية قادرة لا على الإحاطة بالأسباب الحقيقية لنشوء هذه التحديات والصراعات وتحديد ارتباطاتها وتفاعلاتها المختلفة فقط، وانما أيضا على تحديد الإمكانيات اللاحقة لاشتغال المنظومة. وذلك لأن السطحية في التعبير، واللادقة والغموض في التحليل والتفسير، السائدة مع الأسف، تؤدي كلها الى ارتباك وتشوش في الفهم. بل وقد تسمح - عمدا في بعض الأحيان - الى المراوغة والتملص من الإجابة على الأسئلة المركزية.
في كتاباتكم تتحدثون عن "راهنية الماركسية". فهل ما زالت الماركسية قادرة على لعب هذا الدور المنهجي في معرفة وتحليل وتفسير الواقع؟ وما هو المقصود بهذه الـ "راهنية"؟ وأيضا عن أي ماركسية نتحدث؟ هل ما كتبه ماركس في ابحاثه المتنوعة واستنتاجاته صالح لكل زمان ومكان برغم تغيير الواقع وحركته الدائمة؟ وهذا السؤال ينطبق كذلك على الماركسيين الاخرين أيضا؟ ما هو الشيء الجوهري لتكون للماركسية هذه الــ"راهنية"؟
هل لك ان تتوقف امام هذه القضية بشيء من التفصيل.
أحمد الديين: عند الحديث عن "راهنية الماركسية" لا بد من الانطلاق من أنّ ظهور الماركسية بالأساس وتطورها ارتبطا بوجود النظام الرأسمالي وتطوره، فالرأسمالية هي الأساس الموضوعي الذي أوجد الماركسية، التي تمثّل مشروعاً ثورياً تاريخياً بديلاً معنياً بنقد الرأسمالية وتحليل اتجاهات تطورها وأشكال تحوّلها من جهة، مثلما هو معني من جهة أخرى بالنضال من أجل تجاوزها، وهذا المشروع مستمر وله راهنيته.
وبالتالي ما دامت هناك رأسمالية، فهناك ماركسية... وما دام هناك استغلال طبقي فهناك مكانة للماركسية... وما دامت هناك طبقة عاملة فهناك راهنية للماركسية... وما دامت هناك مهمة قائمة لتجاوز الرأسمالية عبر الاشتراكية فهناك ماركسية.
وبالتأكيد فإنّ أزمة الرأسمالية الآخذة في التفاقم والاتساع على نحو غير مسبوق تمثّل أحد أهم عناصر راهنية الماركسية كمشروع ثوري تاريخي بديل... أزمة الرأسمالية محتدمة اليوم على مستوى تشديد الاستغلال الطبقي، وعلى مستوى اتساع الفقر والبطالة جراء موجات الغلاء والتضخم وانخفاض الأجور والمعاشات التقاعدية، أو عبر موجات اللاجئين والمهاجرين المستجيرين من رمضاء الأطراف الكولونيالية التابعة بنار المركز الإمبريالي، أو مظاهر البؤس والمعاناة الناجمة عن الخصخصة وتسليع الصحة والتعليم.
وما تعانيه الرأسمالية العالمية ليس مجرد أزمة دورية عابرة، وإنما هي أزمة عامة، وهذه الأزمة على الرغم من محاولات الرأسمالية إطالة عمرها وتجديد نفسها، إلا أنّها يمكن أن تتحول إلى أزمة نهائية عندما يتوافر العامل الذاتي للتعامل مع الظرف الموضوعي الآخذ في النضوج باتجاه انهيار النظام الرأسمالي.
وعلينا أن نلاحظ أنّ الرأسمالية لا تستطيع الخروج من أزمتها الحالية بالطريقة ذاتها التي خرجت فيها من أزماتها السابقة في القرن العشرين من خلال تصدير الأزمة إلى الخارج بالقوة والاستيلاء على مناطق نفوذ جديدة وإعادة تقاسمها في ما بينها، ذلك أنّه إذا استثنينا مع بعض التحفّظ ما بقي من بلدان "اشتراكية" مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية وفيتنام، فإنّ هذا التوسع الرأسمالي جغرافياً لم يعد قائماً أو متاحاً بعد استيلاء الرأسمالية على غالبية أرجاء الأرض عقب إسقاط الاتحاد السوفياتي وبلدان وسط وشرقي أوروبا "الاشتراكية" السابقة، وبلغ مستوى الاستغلال الرأسمالي للشعوب وما نجم عنه من أزمات الجوع والمناخ والمياه والطاقة درجة تهدد إعادة إنتاج الجنس البشري، فيما تحوّلت أزمة فيض الانتاج إلى أزمة فيض إنتاج المال والسلاح، حيث لا يمكن التخلص منهما بالسهولة ذاتها التي تم فيها التخلص من فيض البضائع، ما يعني أنّ تناقضات الرأسمالية تفاقمت بحيث يصعب عليها تجاوز أزمتها.
كما تجلت التناقضات البنيوية الصارخة للرأسمالية في طغيان قطاع المال وفقاعاته، وقطاعات الاقتصاد غير الفعلي على قطاعات الاقتصادات الفعلية، وتعاظم الدَين واستمرار تقلّص الفواصل الزمنية بين دورات الأزمات العامة، ما يعبّر عن تفاقم التناقض الرئيسي بين العمل ورأس المال، وبين الطابع الاجتماعي المتزايد للعمل وطبيعة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ويكشف حقيقة أنّ الرأسمالية آيلة إلى زوال بوصفها نظاماً قائماً على الاستغلال الطبقي والظلم الاجتماعي وإخضاع الشعوب وإفقارها ونهب ثرواتها وتدمير البيئة وخلق التوترات وتأجيج الصراعات وافتعال الحروب لهثاً وراء تعظيم الأرباح وتكوين الثروات وتراكمها وتمركز رأس المال... فالرأسمالية نظام اجتماعي استغلالي يتفسخ، وذلك على الرغم من محاولاتها للمراوغة التاريخية وتأجيل نهايتها المحتومة... فماذا يمكن أن يكون أكثر من ذلك لتأكيد راهنية الماركسية كمشروع ثوري تاريخي بديل.
وبالطبع فإنّ قولنا براهنية الماركسية لا يعني تجاهلنا لحقيقة أنّ هناك عناصر في الماركسية عفا عليها الزمن، إلى جانب العناصر الحيّة القابلة للتطور فيها... وفي تراثنا الماركسي سبق لكارل ماركس نفسه ورفيقه فريديك انجلز أن كتبا في مقدمة الطبعة الألمانية لعام 1872 من "البيان الشيوعي"، التي صدرت بعد مرور نحو ربع قرن على أول طبعة له: "لقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه، نظراً للرقي العظيم في الصناعة الكبرى خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة وما رافق هذا الرقي من تقدم الطبقة العاملة في تنظيمها الحزبي، ونظراً للتجارب الواقعية..."، ولكنهما في الفقرة السابقة على تلك الفقرة تحديداً كتبا أنه "رغم ان الظروف تبدلت كثيراً خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، فالمبادئ العامة الواردة في هذا البيان لا تزال بالإجمال محافظة حتى اليوم على كل صحتها، وإن كان يجب إدخال بعض التعديل على عدد من الفقرات".
نعم، لقد شاخت بعض النصوص، وربما شاخت بعض التحليلات والاستنتاجات والتصورات، التي توصل إليها كارل ماركس عند بحث هذا الموضوع أو ذاك، ولكن الذي لا يزال راهناً من الماركسية هو منهجها في الجدل المادي، وهو الأساس في النظر إلى الواقع وتفسيره، والأساس في النضال من أجل تغيير هذا الواقع المتغيّر.
فلا يزال "البيان الشيوعي" الذي كتبه ماركس وانجلز في العام 1848 مفيداً للقارئ في عصرنا الحاضر، وكذلك مؤلفه الأضخم "رأس المال"، الذي قدم تحليلاً دقيقاً لنمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي في مواجهة الأنماط السابقة عليه، حيث لا تزال الماركسية، والماركسية فقط، هي أفضل أدوات تقديم تصور سليم لمسيرة الرأسمالية في خطوطها العامة، مثلما كتب سمير أمين، وهو الذي لم يكتشف طبيعتها الاستغلالية فحسب، وإنما كشف تناقضاتها ودحض أزليتها وحدد عناصر فنائها بوصفها حقبة تاريخية عابرة.
صحيح أنّ مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا على سبيل المثال شاخ وأصبح ملتبساً، ولكنه شاخ كمصطلح فيما لا يزال قائماً كمتطلب لبناء الاشتراكية، التي لا يمكن بناؤها من دون وجود سلطة سياسية تسيطر عليها قوى الشعب العامل.
وصحيح، أنّ هناك تحولات مست طبيعة العمل والطبقة العاملة، ولكن هل انتهى العمل؟ وهل زالت الطبقة العاملة من الوجود؟
وصحيح أنّ أنواع التناقضات قد تنوعت في أهميتها مثل التناقض بين الطبيعة والمجتمع البشري، وهو تناقض رئيسي كان موجوداً قبل التناقض الطبقي وسيستمر بعده، أو التناقض الجندري، ولكن هذا لا يمكن أن ينفي حقيقة أنّ التناقض الأساسي في ظل الرأسمالية وغيرها من الأنظمة الطبقية كان ولا يزال هو التناقض الطبقي.
وعلى نحو تفصيلي ملموس يمكن الوقوف أمام بعض تجليات راهنية الماركسية، التي تتمثّل في وجود أحزاب شيوعية وعمالية تتبنى الماركسية، وكذلك من تجليات راهنية الماركسية ما نلمسه من اتساع لقاعدة القوى التي تتبناها وتستلهمها، وبينها قوى جديدة وعديدة من خارج الأحزاب الشيوعية والعمالية مثل: المجموعات النسوية التقدمية، والمناضلين من أجل البيئة، وعدد من الحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية والإمبريالية والسياسات النيوليبرالية، وحركات السكان الأصليين في بعض البلدان، والحركات القومية والوطنية التي اتجهت نحو تبني الماركسية واستلهامها... والتجلي الثالث لراهنية الماركسية يبرز على مستوى ارتباط العلوم الحديثة الطبيعية والاجتماعية، مثل علم الاجتماع والاقتصاد السياسي، والتاريخ بالماركسية.
الثقافة الجديدة: كما ذكرنا سابقا، تجيش المنظومة الرأسمالية في تطوراتها الحالية، وعلى مختلف اصعدتها، بتحديات وصراعات مرحلية كثيرة. ربما الأبرز منها يقع على الصعيد السياسي العام. فهناك محاولات جدية لإعادة توزيع النفوذ والادوار القيادية داخل النظام الدولي، تقترن بتراجع ملحوظ للقطبية الواحدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، تطفو على السطح حاليا ومنذ مدة تنبؤات بركود اقتصادي ربما سيكون طويل الامد نسبيا. ركود مقترن بارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الإنتاج، وبمشاكل التضخم والتأثيرات الموجعة اقتصاديا واجتماعيا للسياسات النقدية المتشددة لمواجهته.
أما على الصعيد الاجتماعي، فترتد وتجتمع كل هذه التحديات والمصاعب بصورة مكثفة، من خلال أثرها الكبير على ارتفاع تكاليف المعيشة، ومن خلال تكثيف الهجوم على المكتسبات والمزايا الاجتماعية للكادحين وذوي الدخول المنخفضة، وارتفاع مستويات الهجرة وتفاقم التعصب...الخ. طبعا، لا نحتاج الى الاستطراد ان تأثير هذه التحديات في بلدان الأطراف هو اشد وطئا وبؤسا وخطورة.
أستاذ احمد، إنّ خطوط اللوحة تشتبك وتضيع معالمها حتى عند السياسي المتابع والمطلع، فكيف بالقارئ البسيط. فهل لك ان تحدد لقرائنا، من وجهة نظركم، الملامح العامة للمرحلة الحالية من تطور المنظومة الرأسمالية على اصعدتها المتفاعلة المختلفة؟
أحمد الديين: إذا أردنا تحديد ملامح مستجدات الوضع الدولي فسيبرز أمامنا أولاً وقبل كل شيء تفاقم أزمة الرأسمالية، التي لم تعد، كما كانت، مجرد تكرار للأزمة الدورية للرواج والكساد... وتبرز أمامنا معها حالة التضعضع والتراجع النسبيين للقوة الإمبريالية المهيمنة وتبدل موازين القوى جراء أفول عهد القطب الواحد وبروز ظاهرة الدول الصاعدة ومنظوماتُ بريكس وشنغهاي وأستانا، وكذلك تضعضع هيمنة الدولار، حيث لم تعد الإمبريالية مطلقة اليد في فرض أهدافها وهيمنتها، وهناك في مواجهة هجومها مقاومة شعبية واجتماعية تقوم بها الشعوب وقوى اليسار، وهناك انتقال من الأحاديّة القطبيّة نحو تعدد القطبيّة... ويبرز أمامنا ثالثاً اشتداد الميل في الاندفاع نحو العدوانية والحروب والعسكرة... وتبرز أمامنا رابعاً تحديات ذات طابع دولي تتمثّل في الفقر والتفاوت الطبقي وتغير المناخ والأوبئة والتغذية وإمدادات المياه وأمن الطاقة والعولمة الرأسمالية المتوحشة... ويبرز أمامنا خامساً مأزق "الديمقراطية البرجوازية" جراء العزوف الواسع لغالبية المواطنين في بلدان المراكز الإمبريالية عن المشاركة في الانتخابات، الذي يكاد يبلغ مستوى المقاطعة، ومن جانب آخر سيطرة الأحزاب والشخصيات اليمينية الشعبوية على عدد من حكومات الدول الرأسمالية الكبرى، وهي أحزاب وشخصيات ذات نزعات فاشية وعنصرية.
الثقافة الجديدة: بالطبع، لا يمكن إدراك معالم اللوحة المرحلية لتطور المنظومة الرأسمالية، التي رسمتَ لنا أعلاه خطوط ملامحها الأبرز، بصورة أوضح، الا إذا وضعناها على خلفيتها العامة: تفاقم أزمة البيئة والتغير المناخي وقضايا التحول نحو الطاقة النظيفة؛ التطورات التكنولوجية المتسارعة - الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال لا الحصر- والصراعات على آليات إدراجها في البنية الاقتصادية، وغيرها الكثير.
كما هو معروف، ان اللوحة بمجملها، بتحدياتها وصراعاتها المختلفة، بتفاعلاتها المعقدة، بخلفيتها البيئية والتكنولوجية، هي في نهاية المطاف انعكاس لتحولات جوانية في آليات اشتغال المنظومة الرأسمالية. ومجمل عملية التفاعل سيفتح الأبواب مشرعة امام إمكانيات متعددة، بعضها شديد الخطورة.
أستاذ احمد، هل لك ان تحدد لنا، من وجهة نظركم، ما هي أبرز هذه التحولات الجوانية؟ وارتباطها وتفاعلها مع ازمة البيئة والمناخ والتطورات التكنلوجية؟ وما هي الابعاد القادمة لهذه التطورات؟
أحمد الديين: حسناً، سأحاول التوقف أمام عنواني الأزمة البيئية والذكاء الاصطناعي الواردين في السؤال... هذان العنوانان لا يمكن النظر إليهما بمعزل عن النظام الرأسمالي وتناقضاته وتطوره والتحديات التي يواجهها وأزمته، وكذلك فإنّ مستقبلهما والسيطرة عليهما مرتبط بمستقبل البديل الاشتراكي.
أزمة البيئة كانت توصيفاً صحيحاً في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، ولكن هذه الأزمة اليوم أصبحت تقف على مشارف كارثة بيئية عالمية يمكن أن تشكّل تهديداً وجودياً للبشر، وذلك جراء الاستغلال الرأسمالي البشع ليس لقوة العمل فحسب، بل الاستغلال البشع الذي تتعرض له الطبيعة... فالركض وراء الأرباح وتعظيمها يدفع بالتقدم العلمي ليس نحو استخدام الطبيعة فحسب، وإنما يفتح الأبواب على مصاريعها نحو أبشع أنواع الاستغلال الرأسمالي المنفلت والمسرف للطبيعة، ما أدى لتسريع ظواهر الاحتباس الحراري والتبدلات المناخية، وللانقراض المتسارع للعديد من الأنواع، وأدى إلى استنزاف النفط والغاز والانبعاثات الكربونية الملوثة والتصحر وتدمير الغابات وتلوث المياه وثقب الأوزون، الذي تم تداركه.
وللأسف، فإننا نحن الشيوعيين لم نلتفت بما يكفي في العقود الماضية للأزمة البيئية التي تتحوّل إلى كارثة بيئية، مع أنّ ماركس أوضح مبكراً في "نقد برنامج غوتا" الصلة أو الوحدة الجدلية بين العمل والطبيعة أي بين البشر والطبيعة وأنّ الرأسمالية لا تستغل قوة العمل فحسب، وإنما الطبيعة أيضاً... ولعلّه حان الوقت لإدماج النضال البيئي ضمن الصراع الطبقي والتصدي للاستغلال الرأسمالي المزدوج للإنسان والطبيعة، والتركيز على دور الاحتكارات الرأسمالية ومسؤولية الحكومات في البلدان الإمبريالية في دفع الأزمة البيئية نحو مشارف الكارثة البيئية، وهو ما يحدث فعلا في عدد من الحركات الشعبية في أمريكا اللاتينية مثلاً، وحان الوقت لفضح قصور ومحدودية أثر مؤتمرات البيئة، التي تنظمها الأمم المتحدة منذ العام ١٩٧٩.
أما الذكاء الاصطناعي فإنه أحد مظاهر التطور المتسارع والمتناقض لقوى الإنتاج في ظل النظام الرأسمالي، وما تنطوي عليه من انعكاسات على العمل ووقت العمل وحجم العمالة المستخدمة ودور الطبقة العاملة في الانتاج، وكذلك ستنعكس على احتدام تناقضات النظام الرأسمالي وخصوصاً بين التطور المتسارع لقوى الإنتاج وثبات علاقات الإنتاج واستحقاقات تغييرها، بالإضافة إلى ما تشكّله من تحديات وأزمة أخلاقية.
وسواء كنا نتحدث عن الكارثة البيئية المحدقة أو تحديات الذكاء الاصطناعي فإنّه لا يمكن حلّ تناقضاتهما في ظل النظام الرأسمالي، وهذا ما يفرض البديل الاشتراكي لضمان استمرار الوحدة الجدلية بين البشر والطبيعة ومعالجة التناقض بين التطور المتسارع لقوى الإنتاج وتغيير علاقات الإنتاج.
الثقافة الجديدة: بالطبع، لا تتكون المنظومة الرأسمالية من بلدان المركز فقط، فلا أحد ينسى كونها وحدة متناقضة ومتصارعة مع بلدان الأطراف/ البلدان التابعة. وبالرغم من اننا يجب ان لا نتغافل عن كون أنّ الأخيرة ليست على مستوى تطور واحد، وبالتالي، فإن الصراعات والتناقضات في ما بينها كثيرة. وهو ما يزيد المشهد تعقيدا. ولكن عموما، نستطيع القول إنّ تأثير هذه التحديات والصراعات الحالية على دول الأطراف، خصوصا تلك الهامشية منها اشد وطئا وكثافة: حروب، استبداد، بطالة، تهميش، مجاعة، تزايد عدد السكان وأخيرا وليس آخرا الهجرة خصوصا الهجرة غير الشرعية بمآسيها وضحاياها.
هل لك أستاذ احمد ان تقدم لنا قراءتك للإمكانيات المفتوحة، آليات النضال الملموسة، امام القوى والأحزاب الاشتراكية واليسارية في هذه البلدان للنضال لا من أجل احداث التغيير المنشود في بلدانها فحسب، من ديمقراطية حقيقية وعدالة اجتماعية، وانما ان تساهم أيضا في اعادة تجميع القوى والتنظيمات اليسارية العالمية، في بلدان المركز والأطراف، وتوحيد كلمتها سعيا نحو البديل المطلوب.
أحمد الديين: إجمالاً يمكن القول إنّه في بلدان الأطراف، أو البلدان التابعة والخاضعة للهيمنة الإمبريالية عموماً، وضمنها بلداننا العربية على نحو أخص، فقد تكرّست خلال السنوات الأخيرة علاقات التبعية عبر إحكام هيمنة البنى المسيطرة في المراكز الإمبريالية وتبعية البنى الرأسمالية الكمبرادورية في بلدان الأطراف ذات التكوين الريعي والدور الوظيفي المتخلف في إطار التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل الموجه لخدمة متطلبات تجديد الانتاج في المراكز، وعبر الأنظمة السياسية التابعة بحكم ارتباطاتها ومصالحها الطبقية، بالإضافة إلى سياسات وممارسات التحكّم الإمبريالي بالاقتصاد والسياسة والأمن والثقافة في البلدان التابعة.
ومع نهايات القرن الفائت، القرن العشرين وبدايات القرن الحالي، القرن الحادي والعشرين نجد أنّ المركز الإمبريالي قد حرص على فرض النيوليبرالية في البلدان التابعة لتكريس سيطرته، وذلك بالترافق مع العدوان العسكري والحروب والتدخل الأجنبي في عدد ليس قليلا منها، بحيث يتم استكمال تفكيك ما هو قائم من دور اقتصادي للدولة في بلدان الأطراف أو البلدان التابعة وما ارتبط بذلك من نهب منظم لمواردها ومقدراتها وإفقار لشعوبها، وإفساد للجهاز المدني للدولة وتعزيز سطوة الاستبداد السياسي، بل حتى تصفية الجهاز العسكري للدولة.
كما سعى المركز الإمبريالي، وخصوصاً في منطقتنا إلى استخدام القوى الرجعية الدينية والطائفية لتخليف مجتمعاتنا وتفتيتها وإلهائها عن الصراع الرئيسي مع الإمبريالية وركائزها المحلية في صراعات وهمية، إلى جانب التآمر عبر إفساح المجال أمام النمو السرطاني للقوى الإرهابية في مجتمعاتنا بعد سنوات من التسعير المتعمد لما يسمى "الإسلامفوبيا"، هذا إلى جانب ما يمثله الكيان الصهيوني العنصري العدواني من تحديات وضغوط بوصفه القاعدة المتقدمة للسيطرة الإمبريالية في المنطقة.
والواقع اليوم في غالبية الدول التابعة، وضمنها بلداننا العربية هو واقع مأساوي حيث انسد أفق التنمية والتقدم في ظل علاقات التبعية؛ وسطوة الأنظمة التابعة؛ وتخلف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واتسعت بشكل غير مسبوق أشكال النهب المنظم لمقدرات البلدان التابعة ولمواردها الوطنية وثرواتها الطبيعية، وتعمّقت على نحو غير مسبوق الأزمة الاقتصادية والمعيشية العميقة كما هي الحال في لبنان ومصر، إلى جانب ضعف الانتاجية وانتشار البطالة، واستشرت العصبيات واشتعلت النزاعات والحروب الداخلية في عدد من بلداننا العربية، كما في سوريا وليبيا والسودان... وفي المقابل نلاحظ فشل الموجة الأولى من الثورات والانتفاضات الشعبية العربية، التي اندلعت في بدايات العقد الثاني من القرن الحالي، وذلك جراء غياب القيادة الثورية واختراقات قوى الثورة المضادة والتدخلات الإمبريالية والرجعية.
أمام مثل هذا الواقع الصعب والمعقد والمتناقض والمأزوم الذي تعيشه بلداننا العربية، وغالبية البلدان التابعة، لا بديل أمام شعوبنا وحركاتنا التحررية ويسارنا وأحزابنا الشيوعية غير النضال لتجاوز هذا الواقع وتغييره واستكمال مهام التحرر الوطني، وتحقق الثورة الوطنية الديمقراطية بأفق اشتراكي، وذلك من خلال محاور النضال الاتية:
1- تفكيك وكسر علاقات التبعية وصولاً إلى تصفيتها.
2- تفكيك أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف والفساد عبر انتزاع مكاسب ديمقراطية وصولاً إلى إقامة أنظمة حكم وطنية ديمقراطية عادلة اجتماعياً.
3- صيانة الاستقلال السياسي، والنضال من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي.
4- الدفع نحو اختيار طريق التنمية المستقلة للقضاء على علاقات التخلف والتبعية وبناء اقتصادات منتجة، وعلاقات اقتصادية متكافئة مع الخارج من خلال توثيق علاقات التبادل مع الدول الصاعدة والمتحررة.
5- وعلى المستوى العربي تبرز مهمة رفض الكيان الصهيوني وليس فقط رفض التطبيع معه، والمشاركة في المقاومة ودعمها والتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية كل قوى حركة التحرر العربية، والتوصل إلى أشكال من التضامن والوحدة الكفاحية بين قوى التحرر والقوى الشعبية العربية، ووضع أسس لتعاون واتحاد بين البلدان العربية المتحررة على أسس ديمقراطية وبعيداً عن الضم والإلحاق.
لكن، لنكن صريحين، فإنّ قوى التحرر والتغيير، وبينها قوى اليسار وأحزابنا الشيوعية خصوصاً في منطقتنا العربية تعاني هي الأخرى من أزمة على مستوى القيادة والفكر والسياسة والتنظيم وأساليب النضال وضعف الصلة مع الجماهير، وعليها أن تجري مراجعات نقدية جريئة وجديّة في صفوفها والعمل على تجاوز أزمتها وتهيئة أوضاعها الذاتية لتتناسب مع الواقع الموضوعي والعملية التاريخية اللذين يتشكلان في عالمنا جراء تفاقم أزمة النظام الرأسمالي واحتدام تناقضاته في المركز والأطراف.
الثقافة الجديدة: أستاذ احمد، كيف ترى إمكانية استخدام النفط والغاز، هذه الثروة الناضبة، في إحداث نمو حقيقي في البلدان المصدرة، بعيدا عن التفرد والاستبداد والحروب. خصوصا وهي ثروة ناضبة ليس فقط بانتهاء المخزون منها؛ وانما ناضبة أيضا بسبب انتفاء الحاجة إليها. فإذا ما استمرت الأوضاع على ماهي عليه الآن، فإن السيناريو الأخير يبدو أكثر ترجيحا.
والاهم ما هو رأيك بأزمة النفط والغاز، كأزمة "أخلاقية" ان جاز التعبير؟ وذلك باعتبار ان الصراع من اجل مستقبل الانسان، بل وجوده كإنسان، مرتبط بتوفير بيئة صالحة وغير ملوثة له وللأجيال القادمة هي قضية اخلاق بكل ما في الكلمة من معنى. وما هو الدور الذي يمكن ان تلعبه قوى اليسار في البلدان المنتجة للنفط بهذا الخصوص؟
أحمد الديين: نعم، النفط والغاز مصدرا طاقة معرضان للنضوب، إما بفعل الاستنزاف أو بفعل "النضوب التقني" في حال إنتاج طاقة بديلة بكلفة مناسبة... وهذا يمثّل تحدياً وجودياً للدول المعتمدة على تصدير النفط والغاز، خصوصاً ذات الاقتصاد الأحادي كالكويت ومعظم بلدان الخليج العربي.
ومثلما هو معروف فإنّ النفط والغاز في بلداننا هو الأساس الذي ارتكز عليه التطور الرأسمالي المشوّه والتابع لبلادنا منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين، وكذلك في بلدان الخليج العربي الأخرى خلال عقود متقاربة ما أوجد بنية اقتصادية ريعية ذات مورد أحادي مرتبطة تبعياً بالنظام الرأسمالي العالمي حيث تؤدي وظيفة متخلفة في إطار التقسيم الدولي للعمل تتمثل في تصدير النفط الخام والغاز.
ولنتوقف هنا قليلاً أمام الاقتصاد الريعي والدولة الريعية المرتبطين بالاعتماد على النفط في بلداننا الخليجية، وكذلك هي الحال في العراق، ولننظر إليهما نظرة جدلية، ذلك أنهما ينطويان على اتجاهات متناقضة، بعضها سلبي نعم، ولكن بعضها الآخر قد يكون ايجابياً... السلبي في الاقتصاد الريعي والدولة الريعية هو استقلالية الدولة نسبياً عن المجتمع عبر هيمنتها على الريع وبالتالي يكون المجتمع ضعيفاً أمام الدولة، فالناس ما داموا خارج دائرة الفعل الاقتصادي فهم في الغالب خارج دائرة الفعل السياسي، وهذا ما يغذي الاتجاهات الاستبدادية لدى السلطة... والسلبي أيضاً هو انخراط المجتمع في استهلاك الريع وتوزيعه وليس انتاجه، ما يؤدي إلى إهمال القطاعات الإنتاجية والتركيز على الاستيراد وتعزيز قيم المجتمع الاستهلاكي والموقف السلبي تجاه العمل المنتج... أما الإيجابي فهو توفر موارد يمكن في حال حسن استخدامها أن تدفع باتجاه تطوير الدولة والخدمات العامة وتحسين مستوى معيشة المواطنين... وكذلك قد تكون من النتائج الإيجابية للريع النفطي دوره بالتعجيل في بناء قطاع رأسمالية الدولة.... وبالطبع فإنّ هذه الاتجاهات المتناقضة تتحدد وفق الطبيعة الطبقية للسلطة والقوى الاجتماعية الممسكة بزمامها في هذه البلدان ومدى تبعيتها للإمبريالية أو تحررها من التبعية.
وفي الكويت وبلدان الخليج نلحظ اختلال توازن البنية الاقتصادية لصالح القطاعات غير المنتجة، والتطور الأحادي الجانب للاقتصاد، وإعاقة نمو وتطور القوى المنتجة المادية والبشرية وتكريس تخلفها، وهناك تضخم لافت في الإنفاق الحكومي مرتبط بسياسة غير عادلة لتوزيع الدخل والتصرف بالثروة الوطنية. وهذا ما أدى إلى إهدار جانب كبير من هذه الثروة وتنامي فئات طفيلية لا تقوم بأية وظيفة اجتماعية مفيدة، ونمو رأس المال المالي والربوي واتساع عمليات المضاربة والسمسرة، وضعف ارتباط القطاع المصرفي بالاستثمار الإنتاجي، وهيمنة القطاعات غير الإنتاجية كالخدمات والتجارة.
وعلينا أن ننتبه إلى أنّ أزمة الاقتصاد الريعي التابع ليست أزمة وقتية عابرة يمكن تجاوزها عبر الارتفاعات التي تطرأ على أسعار النفط، وإنما هي أزمة بنيوية عميقة وهي مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر مع مرور السنوات، في ظل تحكّم المصالح الرأسمالية الطفيلية لأطراف الحلف الطبقي المسيطر وارتباطاته التبعية بالإمبريالية، والأهم من ذلك هو عجز هذا النمط من الاقتصاد الريعي التابع عن تحقيق التنمية، حيث لا مصلحة تربط القوى المسيطرة بتحقيق التنمية ما دامت هذه القوى قادرة على الاستيلاء على الجزء الأكبر من الثروة الوطنية عبر النشاطات الطفيلية والتنفيع والارتباط التبعي بالإمبريالية، ولهذا أصبح واضحاً ذلك الفشل الذريع في الادعاءات الحكومية بشأن التنمية؛ وعدم الجدية في تنويع مصادر الدخل.
وفي مواجهة هذا الواقع فإنّ الحركة الوطنية عموماً، وفي مقدمتها اليسار الخليجي مثل الحركة التقدمية الكويتية والمنبر التقدمي في البحرين تناضل من أجل انتهاج توجه اقتصادي وطني بديل يستهدف بناء اقتصاد وطني منتج ومتطور ومستقل لمعالجة ما تعانيه البنية الاقتصادية الرأسمالية الريعية المشوهة والتابعة من اختلالات هيكلية عبر المطالبة بتنويع مصادر الدخل والأنشطة الانتاجية، والمطالبة بالتوسع في الصناعات النفطية وخصوصاً التكرير والبتروكيماويات، بحيث يتحوّل القطاع النفطي، وتحديداً استخراج النفط الخام وتصديره، من قطاع مهيمن ومصدر للعوائد المالية إلى قطاع منتج للثروات تتمحور حوله مجموعة صناعات.
كما تدعو الحركة الوطنية وضمنها اليسار الخليجي إلى الاستخدام العقلاني الرشيد وطويل الأمد للنفط وإبقائه بيد الدولة بوصفه قطاعاً استراتيجياً ورفض خصخصته، وسد الأبواب أمام سعي شركات النفط العالمية الكبرى لإعادة هيمنتها عليها تحت غطاء اتفاقيات المشاركة في الإنتاج، وربط سياسة إنتاج النفط وتصديره بمتطلبات تطوير اقتصادنا الوطني واحتياجاته الفعلية؛ وكذلك ربطها بحجم الاحتياطيات النفطية الحقيقية القابلة للاستخراج، واستعمال مصادر الطاقة البديلة النظيفة الأخرى لتوليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والأمواج.
أما إذا انتقلنا إلى البعد الدولي العام للنفط والغاز كمصدر للطاقة وما يسمى بأزمة الطاقة، فعلينا أن ننظر إليها بالارتباط بالنظام الرأسمالي وتناقضاته وأزمته، فالارتفاع الكبير في أسعار الطاقة فاقم كثيراً من معاناة غالبية الشعوب، وهناك جانب آخر للأزمة، وهنا استعير ما سبق أن أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة في العام الماضي عندما قال إنه من "غير الأخلاقي" أن تعلن شركات النفط والغاز الكبرى حصد "أرباح قياسية"، بينما ترتفع الأسعار، وكذلك من "غير الأخلاقي" أن تستطيع الدول الغنية فقط الحصول على الطاقة مع استمرار ارتفاع الأسعار، وهذه الأزمة توجب على أقل تقدير فرض ضرائب على "الأرباح المفرطة"، التي تجنيها كبرى شركات النفط والغاز وتوجيهها لصالح البلدان النامية، كما تتطلب الإسراع في الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.
وأضيف ضرورة منع إخضاع أسعار الطاقة للمضاربات، التي تسهم في رفع أسعارها بشكل غير مبرر.
الثقافة الجديدة: دائما ما اعتبرت ان مقاومة الشعوب العربية للتطبيع مع "الكيان الصهيوني"، جزءا مستحقا على الشعوب العربية. ليس لكون هذه المقاومة فقط أحد ابسط اشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، وحقه الثابت والأكيد في تحرير أرضه، وحقه في العودة وتقرير المصير وفي إقامة دولته الوطنية؛ وإنما لأن الخطر الصهيوني لا يطال الفلسطينيين وحدهم، وانما يستهدف العرب جميعا.
في ظل موجات التطبيع الكثيرة السابقة واللاحقة للبلدان العربية مع إسرائيل، وفي ظل العلاقات العلنية والسرية للحكومات العربية معها، ها نحن نعيد من جديد لحضرتك أستاذ احمد صياغة سؤال كنا قد وجهناه بنسخته الأولى الى الدكتور ماهر الشريف في باب حوارات العدد (434) في تشرين الثاني 2022:
بعيدا عن الشعارات العتيقة والخطط الرومانسية، برأيك ما هي أساليب النضال الملموسة المطلوبة حاليا من قبل التنظيمات والأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية العربية للوقوف ضد التطبيع؟ وما هي آليات التنسيق في ما بينها، وأيضا في ما بينها وبين الأحزاب والتنظيمات والفصائل اليسارية الفلسطينية بغية تقوية ودعم الاصطفاف الشعبي العربي والإسلامي والعالمي مع الشعب الفلسطيني لانتزاع حقوقه ومطالبه العادلة؟ خصوصا وان هذا الدعم يدب فيه الفتور بين فينة وأخرى، وكما هو حاصل في هذا الوقت؟
أحمد الديين: لعلّه حان الوقت لتصحيح الالتباسات وتحديد المنطلقات وإعادة صياغة علاقة شعوب الأمة العربية وحركاتها التحررية والوطنية والديمقراطية والتقدمية، وفي مقدمتها القوى اليسارية والأحزاب الشيوعية مع نضال الشعب العربي الفلسطيني وحركة المقاومة والصراع مع الصهيونية على نحو واضح يتجاوز حالة التضامن إلى مستوى النضال المشترك أو على أقل تقدير التضامن الكفاحي.
المنطلق يفترض أن يستند إلى أنّ أساس القضية الفلسطينية يتمثّل في كونها قضية تحرر وطني في مواجهة كيان صهيوني غاصب زرعته الإمبريالية في منطقتنا العربية ليتولى القيام بدوره الوظيفي في خدمة المصالح والمشروعات الإمبريالية الغربية وتثبيت هيمنتها على منطقتنا وبلداننا وشعوبنا، وذلك بالارتباط مع المشروعات التآمرية الإمبريالية منذ بدايات القرن العشرين ممثلة في وعد بلفور واتفاقية سايكس – بيكو، التي استهدفت استعمار وطننا العربي، وتمزيق بلداننا، وتفريق شعوبنا، ونهب ثرواتنا… والموقف تجاه الكيان الصهيوني يفترض أن يرتكز على التصدي لدور هذا الكيان في محاربة حركة التحرر الوطني العربي واستهدافها وإضعافها عبر العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وعدوان 1967، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء، ثم احتلال لبنان في 1982، وفرض اتفاقيات الاستسلام ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وتمرير مشروعات تسيّد الكيان الصهيوني على المنطقة وتثبيت التبعية للإمبريالية تحت أسماء متعددة لما يسمى مشاريع الشرق الأوسط و"صفقة القرن"، وما ارتبط بذلك من مذابح وحشية وممارسات عنصرية بغيضة وتهجير تعرض له الشعب العربي الفلسطيني، وما نفذه الكيان الصهيوني من اعتداءات متكررة وجرائم واغتيالات وأعمال تآمرية امتدت إلى عموم منطقتنا العربية.
ويجب أن يكون واضحاً أنّ الأساس في القضية هو اختلاق الكيان الصهيوني نفسه، وليس مجرد الاحتلال الصهيوني اللاحق للأراضي الفلسطينية في 5 يونيو/ حزيران 1967 وأنّ النضال ضد الصهيونية لا ينحصر في قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة بعد ذلك التاريخ فقط في إطار ما يسمى "حلّ الدولتين".
وحان الوقت لإعادة الاعتبار إلى أنّ مقاومة المشروع الصهيوني مرتبطة بالنسبة للشعوب العربية وحركاتها التحررية بمقاومة الهيمنة الإمبريالية، وإنّ تحرير فلسطين مرتبط بالضرورة بتحرير شعوبنا وتحرر بلداننا وتضامنها ووحدتها… وتجسيد حقيقة أنّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لشعوب أمتنا العربية وقواها التحررية.
أقول إنّ المدخل هو تصحيح طبيعة الصراع والانتقال من حالة التضامن إلى مستوى النضال المشترك، واستذكر هنا أنه في العام 1973 باشرت قوى تحررية وتقدمية عربية، وليس لبنانية فقط، تأسيس "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية" بقيادة الشهيد كمال جنبلاط، وأظن أنّ وجود مثل هذه الجبهة لا يزال مستحقاً.
واليوم، على الرغم من مرور خمسة وسبعين عاماً على زرع الكيان الصهيوني، إلا أنّ قضية فلسطين لا تزال حيّة حيث لم تتمكن الإمبريالية والصهيونية وأنظمة التبعية العربية من تصفيتها، وذلك بفضل صمود الشعب العربي الفلسطيني ودور المقاومة… ولا أظنني أبالغ عندما أقول إنّ الكيان الصهيوني اليوم يواجه أزمة داخلية وجودية متفاقمة، وهي أزمة مرتبطة بأزمة الإمبريالية الأميركية المتقهقرة وبالتبدلات السياسية الدولية لعالم ما بعد القطب الواحد، الذي كان العدو الصهيوني يتمدد في ظله ممثلاً لمصالحه.
وفي هذا السياق النضالي المشترك، أو لنقل على أقل تقدير في السياق التضامني الكفاحي في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، وليس في حدود المواقف التضامنية الإنسانية أو القومية فقط، تبرز أهمية دعم صمود الشعب الفلسطيني وإسناد مقاومته، والعمل على فضح جرائم الكيان الصهيوني ومقاطعته وفرض طوق من العزلة عليه، مثلما كان الحال مع الكيان العنصري في جنوب أفريقيا، وتحويل التضامن إلى إسناد ملموس مادي وسياسي وعسكري ومعنوي في دعم صمود الشعب العربي الفلسطيني ومقاومته.
ومن مهماتنا كحركة تحرر وطني عربية وكأحزاب شيوعية وكيسار في البلدان العربية رفض أي شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، ودعم نضالات شعوب الدول المطبعة لإلغاء اتفاقيات العار، وتحقيق درجة أعلى من التنسيق بين جميع القوى الفاعلية في المنطقة لمواجهة حملات التطبيع ونشر ثقافة مقاومة مضادة للصهيونية.
وبالنسبة لنا في "الحركة التقدمية الكويتية" فإنّ مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني، إنما هي جزء من واجب مستحق علينا كشعوب وقوى تحررية عربية، انطلاقاً من حقيقة أنّ الخطر الصهيوني لا يطاول الفلسطينيين وحدهم، وإنما يستهدفنا جميعاً نحن العرب... هذا الفهم ضروري لبلورة وجهة نضالية متماسكة لمقاومة التطبيع.
وبالمناسبة فنحن في الكويت نستند في مقاومتنا للتطبيع مع الكيان الصهيوني إلى أرضية قانونية تحققت بشكل ملموس بفضل دور الحركة الوطنية الكويتية والموقف الشعبي الكويتي والتفهّم الرسمي من السلطة، حيث تتمثّل هذه الأرضية القانونية في عدد من التشريعات الكويتية التي تجرّم التعامل مع الكيان الصهيوني بأي صورة من الصور، من بينها القانون رقم 21 لسنة 1964 في شأن القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل، الذي يحظر ولا يزال في مادته الأولى على كل شخص طبيعي أو اعتباري أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقا مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما أقاموا… ويحظر في مادته الثانية دخول أو تبادل أو حيازة البضائع والسلع والمنتجات الإسرائيلية بكافة أنواعها… وكذلك المرسوم الأميري بإعلان الحرب الدفاعية بين دولة الكويت والعصابات الصهيونية المحتلة، في يوم 5 يونيو/ حزيران 1967 وهو المرسوم الذي لا يزال سارياً إلى يومنا هذا… إذ أننا في الكويت من الناحية القانونية في حالة حرب قائمة مع الكيان الصهيوني الغاصب، وهو أمر له أهميته في تثبيت أساس قانوني يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني ويضعه في مقام الخيانة الكبرى... ومن المهم أن تناضل شعوبنا العربية وقواها التحررية في البلدان غير المطبّعة من أجل وجود مثل هذه الأرضية القانونية لتجريم التطبيع.
الرابع من سبتمبر أيلول 2023