نادراً ما نجد في مجتمعنا أو في المجتمعات العربية من يُنتج المعرفة، بل إن معظم المثقفين والباحثين والدارسين لدينا هم نَقَلَة أي ينقلون أو ينسخون المعارف التي أنتجها الغير وخاصة في الغرب، ولا تدخل هنا نفس النتائج التي توصل إليها الباحثون السابقون ضمن الإنتاج المعرفي الجديد، وأيضاً لا تدخل الاستنتاجات السياسية ضمن الإنتاج المعرفي.
إذ يتطلب البحث في مشكلة أو مسألة ما تفكيك مكوناتها الأساسية وصلاتها من دون موقف أو رأي ذهني مسبق، فالخلق والابتكار أو الإنتاج المعرفي موجودة ضمن مخزون أو أرشيف العقل كمجموعة من المعلومات والخبرات والمهارات المتناثرة، وكلما زادت مكتسبات الفرد المعلوماتية والفلسفية والعلمية ومهاراته التحليلية المستندة على أسس علمية، إضافة إلى خبراته الذهنية والحياتية، استطاع التوصل إلى إنتاج معرفي يضيف إلى ما هو موجود حسب مجال اهتمامه واختصاصاته أو بشكل يتعدى الاختصاص.
وتعتبر المعرفة المُنتجة إضافة وتراكما للنتاج المعرفي البشري وليست تكراراً أو نسخاً عنه، كما أنها تسهم في وعي جديد وأكبر سواء كان فردياً أم جمعياً، والأساس هي الفائدة الأعم وليست الأخص، ويلعب الواقع أو الظرف الموضوعي للمجتمع إن كان متقدماً أم متخلفاً، وأيضاً يلعب التطور العلمي دوراً في قيام الفرد بإنتاج معرفي دون إغفال الواقع أو الظرف الذاتي المتمثل في ذكاء الإنسان وسعة أفقه وانفتاحه العقلي، وفي شأن التطور التكنولوجي يقول كارل ماركس: «إن صناعة الإنسان للتكنولوجيا أدت إلى تحديد أفكاره وأنماط حياته لا العكس»، ويقصد عند الاعتماد الكلّي عليها دون إعمال العقل الذي صنعها بالأساس.
والإنتاج المعرفي لا يأتي من عدم، بل يستند إلى مكوّن أصبح من التراث أو الموروث أي موجود على أرض الواقع، ثم يتم الانطلاق منه دون هدمه أو نقضه مثلما يظن البعض، فهذه هي الوسيلة التي أوصلت البشرية إلى ما نشهده من تقدم في سيرورة لا متناهية من هذا التقدم، إذ لا شيء مطلقاً سوى عملية التقدم ذاتها.
لو تابعنا رسائل الدكتوراه لكثير من أساتذة الجامعة لدينا، لاكتشفنا أنها تخلو من أي إنتاج معرفي، بل يغلب عليها طابع النقل والنسخ والتكرار، وهو أمر يعيب ليس فقط الدراسة الأكاديمية ولكن أيضاً يعكس مدى تقدم المجتمع وثقافته ومعارفه وبالتالي وعيه الجمعي، ويؤثر في التوثيق والتراكم المعرفي بل قد يزيّف التاريخ أحياناً ليبدو كأنه حقيقة.
وهذا لا يعني أنه لا يوجد مفكرون معاصرون عرب استطاعوا إنتاج معرفة باذخة وثرية، أمثال الشهيدين اللبنانيين المفكرين د. حسين مروة ومهدي عامل والمفكر المصري محمود أمين العالم، فالكتاب الموسوعي «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية» المكون من جزأين ضخمين لحسين مروة يعتبر من أهم الكتب التي أُنتجت في عصرنا وأضافت إلى وعينا الشيء الكثير.
والتساؤل الآن: هل يعتبر الإنتاج الأدبي والفني إنتاجاً معرفياً؟ الجواب بكل تأكيد، فالمعرفة لا تعني المعلومة فقط ولكنها تعني في النهاية وعياً جديداً، فالفنون والآداب تضيف إلى وجداننا ووعينا وذائقتنا غنى روحياً إضافة إلى المعلومة، ولذا هي عمل خلاّق وإبداع لا يمكن إنكاره وهنا نخص الأعمال ذات القيمة العالية في الأدب والفن لا الأعمال «المسلوقة» أو السطحية.