فوكوياما لا يقدم أي حل
إنها من الأمور التي تبعثعلى الارتياح بالطبع أن نرى أن حتى هذا المدافع الشرس عن الرأسمالية قد بدأ يفهمطبيعتها الرجعية. ومع ذلك فإن فوكوياما يتصرف مثل الطبيب الذي، بعد إعطاء قائمةشاملة للغاية لأعراض المرض الذي يعانيه مريضه، يفشل في تقديم وصفة لعلاج.
يدرك فوكوياما الحرمان الرهيب الناجم عن ويلات رأس المال الماليوفوضى نظام السوق. لقد توصل إلى وجهة النظر التي يشاطرها معه عدد متزايد من الناسبأنه يجب ممارسة الرقابة على الاقتصاد. لكنه لم يصل إلى استخلاص الاستنتاجالضروري، وهو أن الاحتكارات الضخمة والبنوك، التي تمارس ديكتاتورية وحشية علىالعالم بأسره يجب أن تنتزع بشكل كامل من أيدي الخواص.
إنه من ناحية يدعو إلى العودة إلى الاشتراكية. لكن المشكلة هي أنه لايمتلك أي فكرة عما تعنيه الاشتراكية، إذ يقول إن "الملكية العامة لوسائلالإنتاج" لن تنجح (ما عدا بالنسبة للمرافق العمومية). لكن فوكوياما نفسهاستنتج أن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي التي فشلت، أو بالأحرى أنها تعمل علىحساب التقدم الاقتصادي والاجتماعي وتسبب البؤس والفقر والمآسي بالنسبة للغالبيةالعظمى من البشر.
لقد صار من الواضح الآن حتى لأكثر الناس فقدانا للبصيرة أن الاقتصادالرأسمالي هو أفضل وصفة للفوضى والاضطراب والتبذير وسوء الإدارة والفساد على نطاقواسع. والأسوأ من ذلك هو أن الجشع الجامح من أجل الربح، والذي يعتبر القوة المحركةالوحيدة لهذا النظام، يدمر البيئة ويسمم الهواء الذي نتنفسه والطعام الذي نأكلهوالبحار والغابات التي تشكل أساس كل الحياة على هذا الكوكب.
إن المشاكل الجدية تتطلب حلولا جدية. لقد سبق للاشتراكي الإسباني،لارغو كاباييرو، أن قال ذات مرة إنه لا يمكنك علاج السرطان بحبة الأسبرين. يدافعفوكوياما عن تأميم المرافق العامة لأن ذلك "مطلوب بوضوح". ونحن نتفق معهكليا. لكن لماذا ليس ذلك مطلوبا بالنسبة للبنوك، على سبيل المثال، والتي أثبتتعجزا كاملا عن إدارة ومراقبة كميات هائلة من أموال الناس بطريقة مسؤولة؟
كانت المضاربات الإجرامية والفساد وعدم كفاءة البنوك هي الأسبابالمباشرة للأزمة المالية لعام 2008، والتي ما نزال نعيش تبعاتها. وفي النهاية صارهؤلاء المدافعون المتحمسون عن اقتصاد السوق الحر، الذين عارضوا أي اقتراح لتدخلالدولة في الاقتصاد، يحتاجون من الدولة إنقاذهم عن طريق ضخ كميات هائلة من المالالعام في صناديقهم.
وبدلا من إرسالهم إلى السجن، الذي يستحقونه بشكل كامل، تمت مكافأتهمعلى عدم كفاءتهم بمبالغ هائلة من الميزانية العامة. هذا هو السبب في أننا نواجهاليوم عجزا عموميا هائلا، والذي يقال لنا إنه يجب أن ندفع لتقليصه. الفقراء يدعمونالأغنياء، في ما يشبه حكاية روبن هود لكن بشكل معكوس.
وفي الوقت نفسه يتم إعلامنا بأنه لا توجد أموال لدفع تكاليف تلكالأشياء غير الضرورية مثل المدارس والمستشفيات ورعاية المسنين والمعاشات التقاعديةوالتعليم والطرق والمرافق الصحية، والتي هي كلها في حالة مزرية في بريطانيا وغيرهامن بلدان العالم الغنية.
إذا كان هناك من قطاع اقتصادي يحتاج بشكل عاجل للتأميم فهو البنوكالكبرى. لماذا يرغب فوكوياما في إبقائها في يد الخواص؟ إذا اقتصر التأميم علىالمرافق العامة، فإن أهم قطاعات الاقتصاد ستبقى كما هي في أيدي نفس تلكالأوليغارشية التي ينتقدها فوكوياما. وبالتالي فإن هذا النوع من "الاشتراكية"لن يحل شيئا على الإطلاق.
من الواضح أن المشكلة الرئيسية هنا هي أن فوكوياما يخلط بينالاشتراكية وملكية الدولة وبين ذلك النظام البيروقراطي والشمولي الذي ساد فيالاتحاد السوفياتي. إن ذلك النظام فشل بالتأكيد، وكان من المحتم عليه أن يفشل. لقدسبق لتروتسكي أن أشار إلى أن الاقتصاد المخطط المؤمم يحتاج إلى الديمقراطية تماماكما يحتاج الجسم البشري إلى الأوكسجين.
يجب ألا يكون هناك أي تناقض بين الاقتصاد المؤمم والمخطط وبين أكملأنواع الديمقراطية. إن الاشتراكية الحقيقية تعتمد على مشاركة العمال الأكثر نشاطا،سواء في إعداد خطة الإنتاج أو في تنفيذها. لا نعني بهذا البروليتاريا الصناعيةوحدها، بل كل الفئات المنتجة: العلماء والاقتصاديون والتقنيون والمديرون.
فبدون رقابة العمال وإدارتهم، سيتعرض الاقتصاد حتما للشلل وسيتوقف،وهو ما حدث بالضبط في الاتحاد السوفياتي. كما توفر لنا التجربة الفنزويلية دليلاأكثر وضوحا على مخاطر سيطرة البيروقراطية على الاقتصاد المؤمم.
الطريق الصيني؟
يبدو من المقال أن فوكوياما يعتقد أن البديل الوحيد المعقولللديمقراطية الليبرالية ليس الاشتراكية، بل هو نموذج رأسمالية الدولة المطبق فيالصين:
«يقولالصينيون صراحة بأن نظامهم متفوق لأنهم يستطيعون ضمان الاستقرار والنمو الاقتصاديعلى المدى البعيد بطريقة لا يمكن للديمقراطية تحقيقها... فإذا ما مرت 30 سنة أخرىوصاروا أكبر من الولايات المتحدة، وصار الصينيون أكثر ثراء واستمرت البلادمتماسكة، فإني سأقول إن لديهم حجة حقيقية».
لكنه حذر من أن "الاختبار الحقيقي للنظام" سيكون هو كيفسيتصرف في مواجهة أزمة اقتصادية.
يظهر ارتباك فوكوياما بشكل واضح للغاية من خلال هذه الأسطر. لقد كانتجريبيا انطباعيا قبل 26 عاما عندما كانت لديه أوهام في اقتصاد السوق لأنه كانيبدو وكأنه يتقدم باستمرار. وما يزال تجريبيا انطباعيا حتى اليوم، باستثناء أنإعجابه بالصين قد ازداد بنفس الدرجة التي تراجع بها إعجابه بالرأسمالية الغربية("الليبرالية").
صحيح أن الاقتصاد الصيني قد تقدم بسرعة خلال العقود القليلة الماضية. لكنه بعد أن دخل إلى الاقتصاد الرأسمالي العالمي فقد ورث كل تناقضات الرأسمالية.تعاني الصين الآن من فائض الإنتاج، مما أدى إلى انخفاض معدل النمو وزيادة البطالة.
لقد بلغ معدل النمو الرسمي للصين هذا العام 6,5%. لكن الصين تحتاجعلى الأقل إلى معدل نمو يساوي 8% سنويا لكي تتمكن فقط من استيعاب نمو السكان.وعلاوة على ذلك، وكما يلمح فوكوياما، فإن الاقتصاد الصيني عرضة للصدمات الاقتصاديةالناشئة عن الاقتصاد العالمي، عندما يجد صعوبات متزايدة في تصريف فائض إنتاجه وهوفي حرب تجارية مفتوحة مع أمريكا.
من المثير للسخرية أيضا أن ذلك الرجل الذي يدعي أنه مدافع عنالديمقراطية الليبرالية هو نفسه الذي صار ينظر إلى الصين كمثال، بالنظر إلى أنالنظام الصيني غير معروف باحترامه لحقوق الإنسان والديمقراطية. إن الصين في الواقعتجمع بين بعض من أسوء سمات الشمولية الستالينية وبين أسوء سمات الرأسمالية. علىطول هذا الطريق لا يوجد أمل لعمال الصين أو أي بلد آخر.
الرأسمالية تعني الحرب
لم يسبق للعالم أبدا أن عرف مثل هذه الأوضاع المضطربة التي يعرفها اليوم.في الواقع عندما كان الاتحاد السوفياتي موجودا، كان هناك استقرار نسبي يعكسالتوازن النسبي للقوة بين روسيا والولايات المتحدة. لكن النظام العالمي القديم قدانهار، وليس هناك ما يأخذ مكانه.
لقد قطعنا بالتأكيد شوطا طويلا منذ صدور تلك التنبؤات الوردية بعالم منالسلام والازدهار بعد سقوط جدار برلين. ليس للعالم الحقيقي اليوم أي علاقة علىالإطلاق بذلك المنظور، بل على العكس من ذلك ما نشهده هو حروب تلو حروب. وبصرفالنظر عن الصراعات المروعة التي تمزق بعض البلدان مثل العراق وسوريا واليمن، فقدكانت هناك أيضا سلسلة من الحروب الوحشية في أفريقيا.
تسببت الحرب الأهلية الرهيبة التي شهدتها الكونغو في ذبح ما لا يقلعن 5 ملايين من الرجال والنساء والأطفال. لم تتكبد الصحف الكبرى عناء نشر خبر تلكالمجازر على صفحاتها الأولى. كما أن الرئيس ترامب مزق الصفقة مع إيران التي كانتتمنع ذلك البلد من امتلاك أسلحة نووية، وها هو الآن يعلن قراره بتمزيق الصفقة التيكان ريغان وغورباتشوف قد وقعاها للحد من البرامج النووية للولايات المتحدة وروسيا.
ويشعر فوكوياما بالقلق من احتمال اندلاع حرب بين الولايات المتحدةوالصين، حيث قال:
«أعتقدأنه سيكون في منتهى الحماقة استبعاد ذلك الاحتمال، يمكنني التفكير في الكثير منالسيناريوهات التي يمكن أن تبدأ بها مثل تلك الحرب. لا أعتقد أنها ستكون هجومامتعمدا من قبل دولة على أخرى -مثل غزو ألمانيا لبولندا في عام 1939- بل من المرجحأكثر أن تندلع على خلفية صراع محلي حول تايوان أو حول كوريا الشمالية، وربما نتيجةللتوتر المتزايد في بحر الصين الجنوبي».
من المؤكد أن التناقضات بين أمريكا والصين خطيرة للغاية. وتجدتعبيرها في الحرب التجارية التي أعلن عنها دونالد ترامب من طرف واحد، والتي يمكنأن تتصاعد بسهولة إلى شيء أكثر خطورة يمكن أن يهدد بإسقاط الاقتصاد العالمي كله.وفي المقابل فإن تصاعد النفوذ الصيني في آسيا، وعلى وجه الخصوص محاولتها السيطرةعلى البحار في تلك المنطقة، تعتبره الولايات المتحدة تهديدا لمصالحها.
هذا لا يعني أن الحرب العالمية الثالثة قد باتت وشيكة، كما يعتقدالبعض. ففي ظل الظروف المعاصرة سيكون للحرب العالمية تأثير مدمر على جميع الأطراف.والرأسماليون لا يشنون الحروب من أجل المتعة، بل لغزو الأسواق والحصول على الأرباحومجالات النفوذ. ولذلك فإنه على الرغم من أن السيد ترامب لا يتوقف عن نفث النيرانفي كل خطبه، فإن المواجهة الشاملة مستبعدة.
ومع ذلك فإننا سنشهد حروبا صغيرة طوال الوقت، حروبا"صغيرة" مثل تلك الحروب التي نراها في العراق وسوريا، والتي هي احتمالمروع بما فيه الكفاية في العالم المعاصر. لكن الحروب هي مجرد انعكاس للتناقضاتالمستعصية بين البلدان التي يجب عليها في ظل الرأسمالية أن تقاتل بعضها بعضا منأجل الأسواق مثلما تتقاتل كلاب جائعة على قطعة من اللحم. إن الرأسمالية تعنيالحروب، ومن أجل تجنب الحروب من الضروري إزالة جذورها.
عجلة التاريخ
عندما دخلت جيوش هتلر المنتصرة باريس في عام 1940، جرت محادثة مثيرةبين ضابط في الجيش الألماني وضابط في الجيش الفرنسي. تفاخر الألماني بغطرسة الغازيالمنتصر بأن أمته قد تمكنت أخيرا من الانتقام لهزيمتها المهينة في الحرب العالميةالأولى. التفت إليه الضابط الفرنسي وقال: "نعم، لقد دارت عجلة التاريخ، وسوفتدور مرة أخرى".
بعد سنوات قليلة، تبين أن توقعه صحيح.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي دارت عجلة التاريخ مرة أخرى دورة كاملة.وعلى الرغم من تنبؤات منظري الرأسمالية، فقد عاد التاريخ للانتقام. فجأة صار يبدوأن العالم يعاني من ظواهر غريبة وغير مسبوقة تتحدى كل محاولات الخبراء السياسيينلتفسيرها.
لقد صوت الشعب البريطاني في استفتاء لمغادرة الاتحاد الأوروبي - وهينتيجة لم يتوقعها أحد، والتي تسببت في موجات زلزالية على نطاق عالمي. لكن ذلك كانلا شيء مقارنة مع موجة تسونامي التي أثارتها نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية،والتي كانت نتيجة أخرى لم يتوقعها أحد، بمن في ذلك الرجل الذي فاز.
لقد كان انتخاب دونالد ترامب زلزالا آخر. إن هذه الأحداث تأكيددراماتيكي للاضطراب الذي أصاب العالم بأسره. فبين عشية وضحاها اختفت اليقينياتالقديمة. هناك سخط عام في المجتمع وشعور واسع النطاق بعدم اليقين والذي يغمرالطبقة الحاكمة ومنظريها بقلق شديد.
يتحدث المعلقون السياسيون برعب عن صعود شيء يسمونه"الشعبوية"، وهي كلمة مرنة بقدر ما هي بلا معنى. إن استخدام مثل هذهالمصطلحات الغامضة يدل فقط على أن أولئك الذين يستخدمونها هم أناس ليست لديهم أدنىفكرة عما يتحدثون عنه.
ليست كلمة "الشعبوية" (Populism) من ناحية الاشتقاقية سوى ترجمة لاتينيةللكلمة اليونانية "ديماغوجية" (Demagogy). ويتم استعمال المصطلح بنفس الحماس الذي يقومبه رسام فاشل بطلاء الجدار بطبقة سميكة لتغطية أخطائه. يستخدم لوصف أنواع متعددةمن الظواهر السياسية حتى صار بدون أي محتوى حقيقي.
إن الغليان السياسي والاجتماعي الذي يهز العالم بأسره من أساسه ليسسوى أحد أعراض أزمة أعمق بكثير: ليست أزمة النيوليبرالية، التي هي فقط شكل خاص منأشكال الرأسمالية، بل الأزمة النهائية للنظام الرأسمالي نفسه.
من المتوقع أن تستمر هذه الأزمة لوقت طويل. وليس هناك من حل لها علىأساس الرأسمالية. سوف تصعد الحكومات وتسقط، وسوف يتحول البندول من اليسار إلىاليمين ومن اليمين إلى اليسار، مما يعكس بحثا حثيثا من طرف الجماهير لإيجاد مخرجمن الأزمة.
وليست الظاهرة التي تسمى بـ "الشعبوية" سوى انعكاس لهذهالحقيقة. إن الجماهير تتعلم من تجربتها، وليست لديها طريقة أخرى للتعلم. ستكونالتجربة مدرسة صعبة للغاية، وسيتم تعلم الدروس بمرارة. لكن سيتم تعلمها فيالنهاية.
هناك شيء واحد واضح جدا، وهو أن البرجوازية ليست لديها أية فكرة عنكيفية الخروج من هذه الأزمة. يظهر ممثلوها السياسيون والاقتصاديون جميع ملامحالارتباك والضياع التي تميز طبقة استنفذت صلاحيتها التاريخية، طبقة لا مستقبل لها،وهي تدرك تماما هذه الحقيقة.
يشتكي المدافعون عن الليبرالية الرأسمالية بمرارة من صعود سياسيينمثل دونالد ترامب، الذي يمثل نقيض ما يعرف بـ "القيم الليبرالية". يبدوهذا بالنسبة لمثل هؤلاء الناس بمثابة كابوس. إنهم يأملون أن يستيقظوا ويجدوا أنهكان مجرد حلم، وأنهم في الغد سيشهدون يوما أفضل. لكن بالنسبة لليبرالية البرجوازيةلن يكون هناك أي استيقاظ أو غد.
التصريحات التي أدلى بها فرانسيس فوكوياما، من وجهة النظر هذه، لهادلالة في منتهى الأهمية. لقد فقد هذا الليبرالي السابق كل ثقة في مستقبلالرأسمالية، لكنه لا يستطيع أن يرى أي بديل ممكن لها. وهو مثله مثل جميع منظريالرأسمالية، ينظر إلى المستقبل بتشاؤم كبير. وليس يأسه النظري سوى تعبير عن يأسالنظام الرأسمالي نفسه.
إن المستقبل لا ينتمي إلى البرجوازية العاجزة والمفلسة، التي لايمكنها أن ترى أبعد من أنفها، بل للقوة التقدمية الوحيدة في المجتمع، تلك القوةالتي وحدها من ينتج كل ثروة المجتمع، أي: الطبقة العاملة. ومن خلال تجربتها الخاصةستفهم هذه الطبقة أن السبيل الوحيد للتقدم هو السير في طريق الاشتراكية الحقيقيةوسلطة العمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 أكتوبر2018