لا تولد نزعة الفساد مع ولادة الانسان ولا تكمن في تركيب جيناته، وقد دحض العلم منذ عشرات السنين نظرية وراثة نزعة الاجرام، وحتى النظرية الأحدث التي بررت النزعة الاجرامية بالتركيب الجيني للانسان، أو ما سمي بالكروموسوم الزائد.الفساد لا ينمو الا في بيئات مناسبة له، وليس له سبب وحيد ورئيسي، فالتربية الأسرية لها دور والتربية المجتمعية بمجمل مفاصلها الاعلامية والتعليمية والقانونية والثقافة السائدة بما فيها أنماط السلوك في المجتمع المعين لها دور، وبشكل عام الوضع الاقتصادي الاجتماعي أي البنية التحتية للمجتمع التي تعكس بنية فوقية بتنوعها الثقافي والحقوقي والمؤسسات السياسية والأفكار والأيديولوجيات والفنون... الخ
كما أن ثقافة المجتمع ليست واحدة وثابتة في المكان والزمان، فيحدث أن تتغير هذه الثقافة في ذات المكان ولكن في أزمان مختلفة عبر البنى التحتية المختلفة والتي أشرنا الى مفهومها سابقاً، ففي فترات زمنية ترى ثقافة نفس المجتمع الذي يعيش على نفس بقعة الأرض المعينة وما تشمله من سلوك قد تختلف عن فترات زمنية أخرى، ومن غير المهم ان تكون هذه الفترات الزمنية سابقة أو لاحقة، فيمكن أن يكون هذا المجتمع المعين ذا ثقافة وسلوك متقدمين ومتحضرين في فترة زمنية قديمة، ويصبحان رغم مرور السنين وتطور منجزات البشرية متخلفين.
وهناك قصة أسطورية ترى أن في داخل كل انسان ذئبين أحدهما شرير والآخر خيّر، وهما يتصارعان حتى ينتصر أحدهما على الآخر، وعندما يُسأل حكماء هذه الأسطورة: منْ منَ الذئبين ينتصر عادة؟ يجيبون بأن الذئب الذي ينتصر هو الذي نربيه ونرعاه أكثر.
ورغم أنها أسطورة الا أن لها دلالات مجازية، لا تلقي كل اللوم على الفرد ولكنها تشير بشكل دلالي الى أن المجتمع بمؤسساته وطبيعتها وتركيبتها وسياساتها لها دور في سيادة أحد الذئبين، فإما أن تكون طبيعة أو سياسة هذا المجتمع بمكوناته المؤسساتية وادارته حاضنة للفساد على سبيل المثال أو محاربة له.
لذا اخترع الانسان نظاماً أسماه «الديموقراطية»، ويعني حكم الشعب للشعب وبالشعب، وهو نظام يشارك فيه جميع المواطنين على قدم المساواة، إما مباشرة أو عبر ممثلين له، ويمكّن المواطن من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي، والديموقراطية بمعناها الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع، ويشير الى ثقافة سياسية وأخلاقية تتجلى فيها مفاهيم العدالة الاجتماعية وتداول السلطة سلمياً، و«الديموقراطية» مصطلح مناقض لمصطلح «الأرستقراطية» الذي يعني «حكم النخبة».
فعندما يحكم الشعب نفسه بنفسه فانه يحكم لصالحه، وعندما تحكم النخبة أو الفرد فانها تحكم لصالحها أو لصالح الفرد وليس لصالح الشعب، ومن هنا يبدأ التعارض بين مصالح النخبة ومصالح الشعب فتستحوذ النخبة على مصالح الشعب وحقوقه، وبالتأكيد ليس عن طريق التراضي أو عن طريق تنازل الشعب عن مصالحه، ولكن سرعان ما يبدأ التنافس بين النخبة نفسها على الاستحواذ على جميع المصالح وهو عادة تنافس غير أخلاقي، ولضمان سيطرة النخبة تستخدم أدوات العنف والقمع والرشوة وشراء الولاءات والذمم، واستخدام الأدوات القانونية والقضائية لصالح النخبة أو الفرد.
هذه هي البيئة الحاضنة للفساد، الذي يبدأ ببؤرة أو بؤر ويتفشى ليصبح ثقافة سائدة في المجتمع ومؤسساته المختلفة، وتصبح استخدامات الواسطة والمحسوبية والتنفيع على سبيل المثال جزءا من تفاصيل الحياة اليومية، فتتحول المجتمعات التي تحترم القوانين الى كاسرة لها وتتحول اللامشروعية الى مشروعية بديهية، في تحقيق عملي للمثل الكويتي «من صادها عشى عياله».