ما من قيمة في الحياة هي محل تقريض وإشادة كقيمة الحرية، ولكن ما من قيمة مكبلة بالقيود وبالمحاذير وبالمحظورات، مثلما هي الحرية. إننا جميعا نمشي بمحاذاة الحائط، لأننا اعتدنا الاتكاء عليه ولم نتعلم بعد المشي الحر في الشوارع الفسيحة برجلين طليقتين، ونحن نمشي مطأطئي الرؤوس، لأننا اعتدنا أن تكون السقوف واطئة، بحيث لا تحتمل قاماتنا القصيرة، وإن رؤوسنا دقت بما فيه الكفاية بهذه السقوف، حتى أصبنا بالدوار فلم نعد نعي مواقع الجهات الأربع.. ومع الوقت نشأت في دواخلنا «سيكولوجيا العبد» نحن الذين ولدتنا أمهاتنا أحرارا، وحين نتذكر تلك النصيحة الذهبية التي أطلقها أحد الكتاب: «احذر الإنسان الذي يشعر بأنه عبد، فلسوف يريد أن يجعل منك عبدا» حتى نشعر بأن ماء باردا صب على رؤوسنا، لأننا إذ ندرك في قرارات أنفسنا أننا لسنا أحرارا نمارس التسلط على من نظنهم أدنى مكانة منا.
انظر إلى الرجل المستلب في عمله أمام مديره أو مسؤوله المباشر، وتأمل كيف يتصرف في بيته كطاغية فتعجب كيف تجمع الناس بين شخصية الطاغية وشخصية الخنوع، في أشبه ما يكون بسيكولوجيا التعويض عن القهر الواقع علينا، بالشكل الذي فصله د.مصطفي حجازي في كتابه القيم عن «سيكولوجيا الإنسان المقهور»، وفي كتابه الطريف «المستظرف الجديد» ينقل الباحث هادي العلوي أقوالا وحكما من التراث العربي - الإسلامي تدلل على أن الوعي بهذا الأمر يمتد بعيدا وعميقا، فينسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله «ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه»، أما أبوحيان التوحيدي فيقول: «ما تعاظم أحد على من دونه، إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه».
افتقارنا إلى الحرية كشعور بالانطلاق ينسل عميقا إلى أدق تفاصيل حياتنا، إنه يمس على سبيل المثال قيمة نبيلة كقيمة الحب من يقول إن عواطفنا حرة، أو أننا نعبر عن مشاعرنا حيال الآخرين بشكل حر ومجرد وخال من الحسابات والاعتبارات!
يذهب ميلان كونديرا، الروائي العالمي المعروف، إلى أنه ليس في استطاعة المرء أن يحدد يقينا إلى أي مدى تكون علاقاتنا بالغير نتيجة العواطف لحبنا أو لـ «لاحبنا»، لعطفنا أو كرهنا، وإلى أي مدى هي محكومة سلفا بموازين القوى بين الأفراد، وهذه الملاحظة الدقيقة إذا كانت تصح على البشر جميعا بصرف النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم، فإنها تصح بمقدار مضاعف على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية «تشيخ» فيها حتى العواطف.
«إن طيب الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يتجلى بكل صفاء وحرية إلا حيال أولئك الذين لا يمثلون أي قوة»، والقوة هنا مأخوذة بمعناها الشامل وتجلياتها المختلفة التي تتوغل في أصغر الخلايا وتندس في أدق الشرايين!