بين الحين والآخر يجري استذكار الحملة التي قادها السيناتور الجمهوري المحافظ جوزيف مكارثي، وعرفت بالمكارثية نسبة إليه، والتي انطلقت في الولايات المتحدة الأمريكية عام ،1950 واستمرت لعدة سنوات، واستهدفت أبرز رموز الثقافة والفن، وكان من أبرز ضحاياها عملاق السينما الأمريكية، لا بل والعالمية، شارلي شابلن الذي اضطر لمغادرة أمريكا إلى أوروبا تحت تأثير الضغوط التي مورست ضده .ثمة شخصية لا تقل أهمية عن شابلن كانت ضحية نموذجية للمكارثية هي الكاتب المسرحي آرثر ميللر، للدرجة التي اضطر فيها لعرض مسرحيته “البوتقة” في بلجيكا عام ،1953 قبل أن تعرض في الولايات المتحدة، وقد رفضت سلطات الأمن في حينه سفره إلى بلجيكا لحضور العرض المسرحي المأخوذ عن نصه، الذي قالت هذه السلطات إنه ينتقد الحملة ضد المثقفين الأمريكيين .عندما كان آرثر ميللر في السادسة والثمانين من عمره، فاجأ أمريكا والعالم بنص مسرحي مفعم بالرؤية النقدية التي تليق باسمه وبتاريخه وإبداعه للسياسة الأمريكية . عنوان المسرحية هو: “بعث الأحزان”، ورغم أن الكاتب بدأ في كتابتها قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وتداعياتها، حيث الاندفاع المجنون من قبل الساسة الأمريكان نحو إخضاع العالم بإكراه لسلطتهم، لكنه قال “إن أصداء سبتمبر/ أيلول تتقافز في بعض مشاهدها”، مشيراً إلى ان إحدى شخصيات المسرحية تشير في حوارها إلى أن التورط الأمريكي في الحرب على فيتنام قد بدأ بناء على تقارير تقول إن الفيتناميين هاجموا مدمرة أمريكية وأغرقوها، ولكن الوقائع أثبتت فيما بعد أن المدمرة لم تغرق .تدور أحداث المسرحية في إحدى جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية، حيث تصف وقوع أحد المتمردين النبلاء في قبضة الحاكم الذي يقرر إعدامه، وعندئذ تهرع وكالة إعلان أمريكية شهيرة للحصول على حق تصوير مشهد الإعدام مقابل 25 مليون دولار، واعتبر ميللر في حينه عمله هذا شهادة ضد حالة الجشع المادي والفقر الروحي التي تهيمن على العالم في ظلال السيطرة الأمريكية .لقد مات جوزيف مكارثي، لكن المكارثية لم تمت، ورغم أنه لم يعد هناك اتحاد سوفييتي حتى يرمى من يعارض أمريكا، داخل أمريكا، بأنه عميل له، فإن مكارثية القرن الحادي والعشرين تخلق تهماً جديدة تلائم واقع اليوم، حتى يظل الحس النقدي في الثقافة الأمريكية الديمقراطية محاصراً .
د. حسن مدن - الأمين العام السابق للمنبر الديمقراطي التقدمي (البحرين)