في المقال السابق ذكرنا أن سياسات "الترشيد" التي تنوي الحكومة تنفيذها قريباً هي نسخة طبق الأصل من سياسات "التقشف" الاقتصادي في أوروبا التي أثارت، ولا تزال، غضب شعوب الاتحاد الأوروبي، مما أجبر الحكومات على التراجع عن بعض هذه السياسات غير العادلة، كما تصفها النقابات العمالية والقوى السياسية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني التي قادت مظاهرات الاحتجاج والرفض الواسعة.سخط الشعوب الأوروبية لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة لمعرفة هذه الشعوب وقواها الحيّة بالتداعيات السلبية المترتبة على سياسات "التقشف" الاقتصادي التي ستؤدي إلى تراجع الحقوق الاجتماعية لغالبية المواطنين، ففي تقرير نُشِر حديثاً عن تأثير إجراءات التقشف الاقتصادي أصدرته منظمة "أوكسفام" الخيرية الدولية المستقلة التي تعنى بالتنمية ومساعدة فقراء العالم، قدرت المنظمة أن "عدد الفقراء في أوروبا قد يزيد بمقدار 25 مليوناً بحلول 2025 في حال استمرت الحكومات في تنفيذ سياسات التقشف، وقد يستغرق الأمر 25 عاماً كي يستعيد الأوروبيون مستويات المعيشة التي تمتعوا بها منذ خمسة أعوام".كما حذر تقرير "أوكسفام" من أن "انعدام المساواة بين الأكثر فقراً والأكثر ثراء (الفجوة بين الأغنياء والفقراء) في اتساع، حيث إن الـ10% الأغنى هم الذين استفادوا من إجراءات "التقشف" الاقتصادي"!وفي هذا السياق قالت ناتاليا ألونسو رئيسة مكتب الاتحاد الأوروبي في منظمة "أوكسفام" إن "التخفيضات الشديدة في الأمن الاجتماعي والصحة والتعليم وتدني حقوق العمال والضرائب غير العادلة تجعل ملايين الأوروبيين محاصرين في دائرة من الفقر يمكن أن تستمر أجيالاً"، ثم دعت ألونسو إلى "استحداث نموذج اقتصادي واجتماعي جديد يستثمر في الطاقات البشرية ويعزز الديمقراطية ويعين نظاماً ضريبياً عادلاً"... (كونا 12 سبتمبر 2013).أما الخبير الاقتصادي في البنك الدولي سابقاً وأستاذ الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز، الذي كتب مقدمة تقرير "أوكسفام"، فقال "إن موجة التقشف الاقتصادي التي اجتاحت أوروبا تنذر بإحداث أضرار خطيرة ودائمة على النموذج الاجتماعي الذي طال انتظاره للقارة".وفي وقت سابق وأثناء مقابلة مع "يورو نيوز" للحديث عن كتابه "ثمن عدم المساواة" أجاب ستيغليتز على سؤال: هل زادت سياسات التقشف الاقتصادية الفوارقَ الاجتماعية في أوروبا؟ بالتالي: "إن التقشف هو السبب الحقيقي في الإدارة السيئة للاقتصاد. المشكلة المطروحة هي الضعف في الطلب والنقص في التداول، وإذا ما كان هناك تقشف تقل الإنتاجية وعندما تقل الإنتاجية يقل النمو وتزيد البطالة وعندما تزيد البطالة تنخفض الأجور ويتنافس الناس للحصول على العمل. عندئذ تنقص الخدمات الاجتماعية وتظهر جميع أوجه عدم المساواة في العالم"... ("يورو نيوز العربية"- 13/ 9/ 2012)هذه إذن التداعيات المتوقعة لسياسات "التقشف" الاقتصادي في دول أوروبا، حيث الأنظمة الديمقراطية أي تداول السلطة والتعددية والفصل بين السلطات وحماية الحريات العامة والحوكمة وشفافية الحكومة ومحاربة الفساد السياسي ومنع تعارض المصالح والكسب غير المشروع وحيث توجد منظمات مجتمع مدني مستقلة وفاعلة ودرجة مرتفعة من الوعي العام في المجتمع، فماذا، يا ترى، ستكون نتائج وتداعيات سياسات "التقشف" أو "الترشيد" الاقتصادي لدينا ونحن نعاني، أشد المعاناة، فسادَ المنظومة السياسية وسوء الإدارة العامة وتدني الوعي العام؟! ومن سيتصدى لها ويدافع عن حقوق "الطبقة" الوسطى والفئات الشعبية والفقيرة التي ستقع عليها وحدها أضرار سياسات "التقشف" الاقتصادي أو "الترشيد" كما تسميه الحكومة؟