عملت قوى الفساد والقوى المعادية للدستور والتطور الديمقراطي وما زالت تعمل على عزل مكونات مجتمعنا عن بعضها بعضاً، حيث تتعمد وسائل إعلامها الإشارة إلى المواطنين ليس بصفتهم مواطنين، بل بانتماءاتهم الفئوية أو الطائفية، بحيث يتم ترسيخ هذه الانقسامات الثانوية في أذهانهم، فيظنون خلافاً للحقيقة أن الصراع الدائر في المجتمع هو صراع فئوي أو طائفي وليس صراعاً قائماً بالأساس على مصالح اقتصادية تتجاوز الفئة والطائفة.فجميع المنتمين إلى الطبقتين الوسطى والفقيرة بغض النظر عن أصولهم وطوائفهم ومذاهبهم ومناطق سكنهم يعانون المشاكل ذاتها في التوظيف والصحة والتعليم والإسكان وغلاء المعيشة.وقد ساهم الوضع العام المزري وعدم تنظيم العمل السياسي على أسس وبرامج وطنية من جهة، وضعف مؤسسات الدولة وانحيازها من الجهة الأخرى في ترسيخ هذا الانقسام غير الصحي، حيث سيطرت "مجموعات" فئوية وقبلية وطائفية على بعض النقابات العمالية والاتحادات والروابط الطلابية ومنظمات المجتمع المدني، وهو ما أضعف دورها في توحيد النسيج الوطني وجعلها مترددة وضعيفة في مواجهة السياسات الحكومية السيئة التي ساهمت في تقسيم المجتمع وترسيخ "ثقافة الانعزال الاجتماعي"، وتكوّنت انطباعات سلبية وخاطئة لدى كل طرف تجاه الآخر "المختلف" مثل السياسة الإسكانية، وسياسة توزيع الدوائر الانتخابية، أو سياسة التمييز الوظيفي ضد فئات اجتماعية بعينها، خاصة في بعض المؤسسات والشركات العامة وأغلبية المناصب القيادية في الدولة.لذلك فقد كان من ضمن إيجابيات الحراك الشعبي مساهمته الملموسة في إقامة "جسور وطنية" بين المكونات الاجتماعية والسياسية لمجتمعنا.فنظرة سريعة على أسماء الشباب والسياسيين الملاحقين سياسيا تدل على الطابع الوطني للحراك بالرغم من بعض السلبيات التي يمكن تسجيلها هنا أو هناك؛ مثل بعض التصريحات أو العبارات ذات النبرة الفئوية أو الطائفية أو المناطقية المرفوضة التي تصدر أحياناً من بعض الأطراف المحسوبة على الحراك الشعبي.تفتيت النسيج الوطني لا يخدم سوى قوى الفساد والقوى المعادية للدستور وللتطور الديمقراطي، والحديث الدائم عن الهويات الثانوية يرسخها في أذهان الناس على حساب الهوية الوطنية الجامعة. لهذا فإنه يجب التركيز دائما على المواطنة الدستورية باعتبارها الوعاء الشامل الذي تنصهر في داخله كل المكونات الاجتماعية، وهو الأمر الذي يتطلب ألا يكتفي الشباب المهتمون بالعمل السياسي والعام بانتقاد الواقع المزري، فذلك لن يغيّر في الأمر شيئاً.كما أن عليهم أن يتجاوزا العمل الارتجالي والانكفاء الذاتي والتقوقع الفئوي والقبلي والطائفي والمناطقي، وذلك بقيامهم إما بتكوين تنظيمات سياسية على أسس وبرامج وطنية جامعة تتجاوز الهويات الثانوية بكافة أشكالها، وإما الانضمام إلى القائم منها، فلا ديمقراطية من دون عمل سياسي منظّم والهموم الحياتية والمشاكل اليومية للأغلبية العظمي من شعبنا هي هموم ومشاكل مشتركة.