ما زال الصراع مستمراً بين الشكل التقليدي "للدولة"، أو ما قبل الدولة بشكل أدق، والدولة الحديثة التي وضع أسسها العامة دستور 1962، إذ لم يحسم الصراع لمصلحة أي منهما بعد.وحيث إنه من الصعوبة بمكان استمرار النقيضين معاً (التقليدي والحديث) لمدة طويلة تتعدى المرحلة الانتقالية التي حددها الدستور بخمس سنوات، فقد ترتب على المحاولة القسرية لإبقاء الشكل التقليدي بعد "تزيينه" ببعض المظاهر الصورية للدولة الحديثة مشاكل كثيرة لا نزال نعانيها حتى يومنا هذا.إنه صراع مسافات طويلة يحتاج إلى فهم دقيق لماهيته وطبيعة القوى الاقتصادية والاجتماعية ذات المصلحة في كل جانب من جوانبه، كما يحتاج إلى أن نفرّق بين الاستراتيجية بما تتطلبه من صبر طويل وعمل حقيقي مستمر والتكتيك الذي يتطلب اصطفافاً سياسياً مرحلياً وشعارات مؤقتة.في الشكل التقليدي "للدولة" يطغى مشروع الحكم باعتباره أولوية تدور حولها ومن خلالها الصراعات الداخلية على حساب مشروع الدولة العصرية الذي يتجاوز الأشخاص، فيصبح مشروع وطن ونقطة ارتكاز رئيسة لأي مشاريع أخرى سواء اقتصادية أو إدارية أو ثقافية أو غيرها، ومحور رئيس للصراع الصحي داخل المجتمع.وغني عن البيان أن الصراع المستمر بين الشكل العشائري التقليدي "للدولة" كما هي الحال في دول مجلس التعاون الخليجي والشكل الدستوري للدولة العصرية الذي يفترض أنه بدأ مع دستور 1962 قد اتخذ أشكالاً عدة على مرحلتين رئيستين، تميزت المرحلة الأولى بمحاولات الخروج السافر على العقد الاجتماعي (الدستور)، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً نتيجة للرفض الشعبي من جهة والتغير في الظروف الإقليمية والدولية من جهة أخرى. بينما تميزت المرحلة الثانية التي نمر بها الآن بمحاولات الإبقاء على الدستور كشكل "ديكوري" فقط مع إفراغه من محتواه الداخلي بحيث يضفي "شرعية" زائفة على الشكل التقليدي "للدولة".وكما نرى فإن هذه المحاولات تواجه الآن معارضة شعبية وسياسية واسعة، الأمر الذي سيؤدي إلى فشلها لا محالة، لكن الشيء المؤسف أنها تستنزف الجهود والأموال العامة وتضيّع على وطننا وقتاً ثميناً وفرصاً تاريخية لن تتكرر.لهذا فمن المتوقع أن يكون الحكم المنتظر للمحكمة الدستورية لمصلحة الاستقرار السياسي وترسيخ نظام الحكم الديمقراطي الذي وضع أسسه دستور 1962، وليس العكس والتي من ضمنها، أي الأسس، ما ورد في المادة (50) التي تنص على أن "يقوم نظام الحكم على أساس الفصل بين السلطات مع تعاونها وفقاً لأحكام الدستور ولا يجوز لأي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في هذا الدستور".ومع هذا، فمن الضرورة بمكان الأخذ بعين الاعتبار من أن حكم "الدستورية" لن يحسم نهائياً الصراع المستمر منذ بداية العهد الدستوري لكنه حتماً سيساهم إما في تخفيف حدته وإما في تفاقمه.