أزمة المالية اليونانية وفشل أدوات وآليات صندوق النقد الدولي
وليد نسيب الياس/ اليونان
وقعت اليونان ضحية أزمة النظام الرأسمالي العالمي والمصارف العالمية والاحتيال الحسابي المصرفي والاستهلاك المفرط ونظام دول منطقة اليورو وسوء إدارة موازنات الدولة والفساد المتعدد الأبعاد، ماليا (رشوة وتهرب ضريبي وعمولات غير مشروعة)، وسياسيا (المحسوبية السياسية والتمييز وتحالفات المحادل الاقتصادية الداخلية والتعامل الرخيص مع المحادل التجارية الأوروبية والأميركية)، أضف إلى ذلك التداخل بين العامل السياسي والعاملين الرأسماليين اليوناني والأوروبي، بحيث فرض أصحاب رأس المال سلطتهم على حساب السلطة السياسية. فنجحت الشركات الكبرى في زيادة حجم إنفاق الدولة اليونانية وسرقة أموال الطبقة العاملة والوسطى. وباعتراف الجميع في الغرب والولايات المتحدة الأميركية، فإن اليونان تعاني من تفاقم أزمة مالية خانقة، ولكن لا احد من أتباع النظام الرأسمالي العالمي استطاع حتى الآن تقديم الأدوات المالية وآليات السوق القادرة على إخراج اليونان من أزمتها.
وبدلا من تشخيص الأزمة المالية اليونانية بالعمق باعتبارها أزمة سياسية وليست أزمة أرقام مالية ومؤشرات اقتصادية، اعتبر المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي "دومينيك ستراوس – كان" بأن الأزمة هي أزمة سيولة مالية، مستبعداً استخدام أدوات الرقابة والتشريع، ورافضا إعادة جدولة الديون السيادية اليونانية (380 مليار يورو) من منطقة اليورو. كما راهن على استعادة اليونان ثقة الأسواق المالية والاستدانة منها مجدداً في عام 2012، ولكنه تناسى أن الأسواق المالية الاوروبية والعالمية تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية خلق الازمة المالية اليونانية والعالمية. ففي المقابل، أجبرت اليونان على تنفيذ حزمة إجراءات تقشفية متطرفة وجاهزة، طالت معاشات موظفي القطاع العام والمتقاعدين، ورفع شرائح الضريبة المباشرة وغير المباشرة، والضريبة المقطوعة على المحروقات والسجائر والمشروبات الروحية. مما أدى إلى ركود الاقتصاد، وانخفاض حجم الناتج الوطني اليوناني (250 مليار يورو) بنسبة 2.8 بالمئة، وانخفاض واردات الدولة بقيمة 10 مليارات يورو، وانخفاض الاستهلاك المحلي (- 5.4) والاستهلاك العام (- 7.1)، وارتفاع البطالة الى 16.5 بالمئة في عام 2011. وعوضاً عن تحقيق النمو الاقتصادي، دخلت اليونان في دوامة تراكم الديون السيادية والفوائد المستحقة. وفي هذا السياق، صرح وزير المالية اليوناني يورغوس باباكوستندينوس بأن "السيولة المالية المتوافرة في خزينة الدولة تكفي لغاية 15 تموز 2011. وفي حال عدم استلام اليونان الدفعة الخامسة (12 مليار يورو) من قرض صندوق النقد الدولي ومنطقة دول اليورو والمصرف المركزي الأوروبي بقيمة اجمالية 110 مليار يورو، ستجمد اليونان سداد ديونها السيادية".
ولم تطل التدابير الاقتصادية التقشفية المصارف والشركات الكبرى وأصحاب السفن والأوقاف الكنسية... لا بل عمد النظام الرأسمالي منذ عام 2008، الى ضخ مئات المليارات بحجة دعم النظام المصرفي والسيولة المالية المصرفية وحماية الربح المصرفي ضد الاقتصاد الجوهري والإنتاج والتوظيف. وهذا ما دفع المصارف الى استعادة أرباحها، وبالوقت عينه خنقت الحركة الاقتصادية بنسبة 60% في أكثر من مكان. وتجدر الاشارة الى أن الحكومة اليونانية اليمينية المحافظة السابقة وحكومة "يورغوس باباندريو" الاشتراكية الحالية منحتا 80 مليار يورو لدعم القطاع المصرفي اليوناني.
وتحولت اليونان لحقل تجارب اقتصادية لصندوق النقد العالمي الذي فشل في الماضي بحل الأزمة الأرجنتينية 1999-2001، واقتصر دور دول منطقة اليورو والمصرف المركزي الاوروبي والاتحاد الاوروبي على الموافقة على الوصفة المالية الجاهزة لصندوق النقد الدولي، فيما التزاحم بين ألمانيا وفرنسا على بسط نفوذهما الاقتصادي والسياسي على اليونان على قدم وساق. وبرزت الخلافات المتزايدة بين المسؤولين الأوروبيين على اعلى المستويات حول امكانية المخاطرة بإعادة برمجة الديون السيادية اليونانية. وقد صرح فاليري جاك ديستان بأنه "يجب ان تفلس اليونان اسوة بافلاس الشركات المساهمة". ومن جهته، أعلن صندوق النقد الدولي بأنه لن يحول حصته من الدفعة الخامسة للقرض. ووصل التدخل الاوروبي الفاضح في الشؤون الداخلية اليونانية الى حد طلب موافقة الحزبين الأساسيين في اليونان، حزب باسوك الحاكم وحزب الديموقراطية الجديدة، على برنامج الإصلاحات المالية المتوسطة المدى، الذي يتضمن تخفيض الاجور في القطاع العام، وتخفيض عدد المتعاقدين ورفع ساعات العمل الأسبوعية من 37.5 ساعة الى 40 ساعة، ورفع الشرائح الضريبية وفرض ضريبة مقطوعة على المشروبات الغازية ورفع الضريبة المقطوعة على المحروقات والسجائر ورفع نسبة ضريبة القيمة المضافة من 13 % الى 23 % على المواد الغذائية وخصخصة الشركات العامة، واقفال عدد من المؤسسات العامة وتقليص النفقات العامة ومحاربة التهرب من دفع ضريبة الدخل، وبيع الأملاك العامة بما يعادل قيمة 50 مليار يورو حتى العام 2015.
أمام هذا الواقع السوداوي، يتوجب على الحكومة اليونانية التي أقرت البرنامج أن تنفذه قبل انعقاد قمة الاتحاد الاوروبي في 25 الجاري. وبهدف تخفيض نسبة العجز العام بما يعادل 1 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2015، وتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، طرح وزير المالية اليوناني في اجتماع مجلس الوزراء إقرار إجراءات تقشفية إضافية بهدف تسهيل توقيعه على اتفاقية اقتراض جديدة بقيمة 60 مليار يورو لتغطية حاجات المالية العامة لعامي 2012-2013 .
وفي ظل هذه الضبابية السياسية والمالية في اليونان، اشار تقرير منظمة التعاون والإنماء الاقتصادي الى انه لا يمكن لليونان خدمة الدين العام في حال استمرار ارتفاع نسبة فائدة الديون، حتى ولو حققت أهداف خطط الإنقاذ المالي الأوروبية والدولية. واقترح تخفيض فوائد الاستدانة من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي او تمديد مهلة تسديد الديون السيادية، ولم يستبعد احتمال إعادة بعيدة المدى لجدولة الديون السيادية بالربط مع إنقاذ النظام المصرفي.
وتشير كل الدلائل الى ان اليونان وقعت في دوامة الدين العام، ولا يمكن الخروج منها إلا بحل سياسي جريء، ويعتقد العديد من المحللين بأنه حتى ولو نجحت اليونان في تنفيذ برنامج الخصخصة وبيع الأملاك العامة، فإنها لن تفلح في العودة الى الأسواق المالية في المستقبل القريب، لا بل كل ما تفعله في الوقت الحاضر سيؤدي الى ربح مزيد من الوقت لكي تتفادى اعادة جدولة ديونها السيادية او اعلانها التوقف عن تسديد ديونها العامة.
واخيراً تدل الوقائع الحسية الى أن الرأسمالية ما زالت قادرة على اعادة تجميل صورتها، وتحميل عبء ازماتها على اكتاف الطبقة العاملة والفلاحين واصحاب المهن الحرة والطبقة الوسطى. ولا مبالغة في القول بأن الوصفات الجاهزة في أكثرية الدول الرأسمالية ترتكز على تخفيض الأجور والمعاشات التقاعدية ورفع ضريبة الدخل ورفع ضريبة TVA ورسوم المحروقات ... ولهذا يتوجب على لبنان التعلم من عبرة الأزمة المالية اليونانية وعدم تنفيذ الوصفات الرأسمالية الجاهزة.
عن جريدة النداء 163/