الفتنة الطائفية مثل النار التي لا تنطفئ، فما أن تشتعل شرارتها حتى يرتفع لهيبها وتزداد أواراً، لا لتنير لنا درب التقدم والإنسانية ولكن لتحرق كل ما يصادفها، وتستمر عقوداً وعقوداً طويلة، لتغيّر من الطبيعة الإنسانية وتودي بها إلى مهاوي الكراهية والتعصب والعداء الذي يصعب إلغاؤه.لقد دُمرت شعوب وبلدان وحضارات جراء الفتن وكراهية الغير، والطائفية لا تشتعل من طرف واحد وإنما تحتاج لطرفين لكي تكبر وتعلو ألهبتها لتحرق ليس الحجارة والبشر فقط، بل تئد الروح البشرية وتحول الإنسان إلى وحش تحركه قناعاته المريضة والمظلمة.وفي ظننا أن الطائفية ليست نتاجاً للتاريخ الموغل بالقدم، بل هي انحراف فهمنا للدين وتشويه صورة أُسسه الأخلاقية التي بُنيت عليها ونزلت بسببها هذه الأديان، فالأديان السماوية بدأت بقيم وانتهت إلى قيم نقيضة بيد البشر، واستغلتها وأججتها جهات ودول وأنظمة استعمارية وغير استعمارية، وتلقفها الجهل والتخلف والتعصب الأعمى الذي نزلت الأديان لمحاربته، فكل الأديان السماوية دعت أول ما دعت إليه هو المحبة والتسامح، الذي يعطي للإنسان قيمه الأخلاقية النبيلة في العيش المشترك واحترام الاختلاف الذي يشكل تنوعاً في الوحدة.عقد يوم 8 يونيو الجاري في العراق المؤتمر الثاني للقوى المدنية الديموقراطية العراقية، وبحضور أكثر من خمسمئة شخصية من رؤساء وممثلي الأحزاب والقوى السياسية واتحادات ونقابات مهنية ومنظمات مجتمع مدني، وشخصيات أكاديمية وثقافية وناشطين مدنيين ووجهاء اجتماعيين، وأعلن المؤتمر بعد مناقشات مستفيضة لتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن إطلاق «الحملة الوطنية لمناهضة الطائفية».كما أصدرت مجموعة سعودية واسعة من الأصدقاء الشيعة والسنة الذين جمعتهم ظروف الدراسة الجامعية، رسالة رأت فيها هذه المجموعة أن العالم الإسلامي طغت عليه لغة طائفية ساعدت في نشرها وسائل التواصل الاجتماعي وصور الفيديو ورجال الدين الجدد الذين عملوا على تنامي الطائفية والاستقطاب المذهبي، وقررت أن تنأى بنفسها عن هذه «الجاهلية الطائفية» لأنها ستدمر الجميع، ولذا كتبوا رسالة إخاء يدعون فيها كل المذاهب للاحتذاء بها، وتقول الرسالة «نحن لم نقرر اشعالها ولا حيلة لنا فيها وهي سياسية أكثر منها طائفية، فلندع الحكومات تنشغل بها أما نحن الشعوب فليس من الخير ولا الحكمة أن ننساق خلفها، ولن نستطيع اخماد الفتن إلا بالامتناع عن نفخها، وننادي بالحوار والتواصل والمدنية وإعمار المجتمعات».ورغم أن هذه المجموعة ليست مسيسة، إلا أنها أدركت على الفور بأن التأجيج الطائفي هو سياسي أكثر من كونه دينياً أو طائفياً، لأنهم مجموعة متعلمة ومستنيرة يجمعهم الحرص على المحبة والمواطنة المشتركة وبناء مجتمعهم.بيد أننا في الكويت اعتدنا الانسياق وراء التأجيج الطائفي ودعوات الكراهية بين البشر، ونرى الاختلاف والتنوع خطيئة لا تغتفر، فلا تمر فترة زمنية حتى نجد جهلة ومتخلفين بينهم متعلمون ومثقفون يدعون إلى تدمير الآخر، وينسون في خضم ذلك قضايا وطنهم المشتركة التي تحتاج إلى وحدتهم وتآلفهم كضرورة موضوعية وليست عاطفية رومانسية.أما الأنظمة المستبدة فهي لا تكتفي بغض النظر عن هذا الخطر المحدق، وتجاهل ما يحدث في الساحات العربية والإسلامية، بل تعمل على تأجيجها وتجييرها لأغراضها السياسية محافظة على كراسي زائلة، غير مكترثة بلعنات التاريخ ولا دماء الأبرياء، تحرك غرائزها العدوانية شهوة السلطة، ويتساوى في ذلك السلطات والمعارضة والسنة والشيعة.أدعو كل طوائف ومكونات أبناء شعبي الذي أحبه، بأن تحارب في أقسى معركة قد تواجهها وهي الفتنة الطائفية، فالوعي وثقافة التحضر والتلاحم وليس القوانين هي ما يجنبهم هذا الخطر، وأن يلتفتوا إلى قضايا وطنهم ومستقبله في المواطنة والتطور الديموقراطي وسيادة السلام المجتمعي.