مقال للزميل د. فواز فرحان تحت عنوان "لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً".
قبل سنوات، لأنني لم أكن يسارياً تقدميا كنت حانقاً وغاضباً من الوضع العام المرتبك سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي وكان اليأس من إصلاح هذا الوضع وتغييره هو المسيطر على شعوري ونظرتي للمستقبل.
لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً كنت أعتقد بأن أساس مشاكل مجتمعنا هو موروثه الذي وصل إليه عبر أجيال سبقته وثقافته التي لم يكن له ذنب مباشر بتبنيها، وكنت أعتقد بأن تغيير هذا الموروث وهذه الثقافة هو مفتاح كل تغيير وكل إصلاح في مختلف جوانب حياة هذا المجتمع، غير ملمٍّ بتواريخ الشعوب والتي لم يكن الاستهداف المباشر لموروثاتها وثقافتها هو مفتاح تطورها وتغيير وجهة مسيرتها وغيرَ مستوعب بأن انتصار الطبقات المُستغَلة على الطبقات المُستغِلة كان هو مفتاح تغيير النمط الاقتصادي وبالتالي النظام السياسي والذي انعكس لاحقاً على موروثات وثقافات المجتمعات، ولا أخفيكم خبراً بأنني كنت قاسياً وشديداً في نقد موروث وثقافة المجتمع بهدف (تثقيفه) وتلقينه ما أعتقد به من أفكار مما تسبب بحالة اليأس الشديد عندي غير مستوعب بأن تلقين المجتمع بهدف تغيير ثقافته هو ضرب من المستحيلات سينتهي به الأمر داخل البروج العاجية لمن يسمون مثقفين وفي حدود المقاهي التي يقضي بها الناس أوقات الفراغ.لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً كنت أعتقد بأن مشكلة الكويت تكمن في وجود تيارات دينية سيطرت على مفاصل المجتمع وعرقلت تطوره ديمقراطياً متناسياً وجود سلطة سعت بكل ما تملك من وسائل (ومن ضمنها تقوية التيارات الدينية على حساب التيارات الوطنية والتقدمية) لتقويض هامش الديمقراطية الذي منحنا إياه دستور الحد الأدنى، بل كنت مقتنعاً بأن السلطة مستنيرة أكثر من الشعب وبأن نيتها خالصة لتطوير البلد وليس من أولوياتها السيطرة عليه لنهب ثرواته.لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً كنت أعتقد بأن أميركا هي قبلة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مستسلماً لما تبثه وسائل إعلامها ووسائل إعلام السلطات العربية التابعة لسياستها، ولم يلفت انتباهي مئات الآلاف أو ربما الملايين من الطبقات المسحوقة والفقيرة فيها ولا ظاهرة المشردين (أو الهوملس) داخل مجتمعها، بل كنت أعتقد بأن هاري ترومان -على سبيل المثال- ليس مجرماً حتى مع علمي بضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية! وكنت أعتقد بأن أميركا وُجدت لتبشّر بالحرية وبالسلام ومن مظاهر ذلك احتلالها لأفغانستان وللعراق والذي كنت أعتبره تحريراً وفتحاً عظيما!لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً لم أكن أعتقد بأن الكيان الصهيوني (والذي كنت أسميه بدولة إسرائيل) كيان عنصري مستزرع من قبل القوى العالمية وعلى رأسها أميركا وكنت أعتقد بأنه كيان ديمقراطي وعلماني رغم عشرات المناظر من القتل والتشريد بحق الشعب الفلسطيني والتي كنت أراها يومياً بالتلفاز، بل أشد من ذلك كنت مقتنعاً بحق هذا الكيان الدفاع عن نفسه ضد الحركات الثورية التي تمارس الكفاح المسلح ضده والتي كنت أعتبرها معتدية! كنت لا أستسيغ فكرة بأن هذا الكيان ما هو إلا شوكة في خاصرة منطقتنا بهدف تثبيت قدم القوى الإمپريالية فيها.وعلى سيرة الإمپريالية، لأنني لم أكن يسارياً تقدمياً كنت أعتقد بأن هذا المصطلح لا قيمة واقعية له وليس إلا هذياناً كان يتردد على ألسنة طغاة أمثال صدام والقذافي، غير فاهم لتعريفه العلمي والذي يوصّف الحالة العالمية لطغيان الأنظمة الرأسمالية بهدف السيطرة على الأسواق خارج نطاق حدودها بكل الوسائل ومن ضمنها العسكرية.وختاماً، كدت أفقد إنسانيتي لأنني كنت أحمل الفقراء والمحتاجين في دول العالم مسؤولية وضعهم مدعياً بأن كسلهم وعدم رغبتهم بالإنتاج هي سبب ما وصلوا إليه وبأنهم يستحقون نتيجة عملهم، غير واعٍ لاستغلال الشركات الكبرى للطبقات العاملة وللفئات المعدمة وغير مستوعبٍ بأن طبيعة النظام الرأسمالي تؤدي -حتماً- لاتساع الهوة بين الطبقات ولغلاء الأسعار وللأزمات الاقتصادية المتتالية والتي تؤدي إلى مزيد من الفقر.بعد حسم أمر توجهي نحو اليسار والتقدمية تغيرت كل رؤيتي للأمثلة التي ذكرتها تماماً وبتُّ متفائلاً بسبب لمسي لأساس المشكلة ولوضوح رؤيتي تجاه الحلول العلمية والمنطقية لها وركبت الطريق نحو تحقيق شعار (وطن حر وشعب سعيد)..
د. فواز فرحان
عضو في التيار التقدمي الكويتي