معاداة الخط التقدمي اليساري.
بقلم: د.فواز فرحان*
ليس الخط التقدمي اليساري مذهباً (مثالياً) تحدد مواقفه ردود الأفعال على ما يسمى بالظلم التاريخي له، وهو لا يستغل (براغماتياً) حالات العداء له لاستدرار العواطف ولخدمة أجندة مصلحية معينة.وحديثي عن معاداة الخط التقدمي اليساري سيكون منطلقاً من تحليل موضوعي مبنياً على شواهد تاريخية واقعية ملموسة ويهدف إلى تبيين المنطلقات المختلفة لهذا العداء بمختلف درجاته.
الخط التقدمي اليساري يهدف إلى تغيير الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي لصالح تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية وتقدّم المجتمع على جميع الأصعدة، وهذا الهدف لا يعني أبداً تكراراً لتجربة معينة عليها الكثير من الانتقادات؛ ولأسباب انهيارها العديد من التفسيرات والتحليلات كالتجربة السوڤييتية السابقة مثلاً، وبالتأكيد هناك انتقادات موضوعية للأساس الفكري لهذا الخط ولمنطلقه الاقتصادي الاجتماعي ولهذه الانتقادات منطلقات قد نتفق أو نختلف معها ولكنها تظل جديرة بالملاحظة والتدقيق وتشكل أحد روافد تجديد هذا الخط التقدمي اليساري، وفي الوقت نفسه هناك انتقادات تنطلق من موقف عدائي لهذا الخط لأسباب متنوعة وسأتحدث عنها بشقيها العالمي والمحلي في الكويت.
الانتقادات الموضوعية للخط التقدمي اليساري تنطلق من الفلسفة المثالية التي تدّعي أن الوعي (الفردي والمجتمعي) وكذلك الأفكار تسبق الواقع المادي بل تدعي أنها هي من يصنعه ويحركه وأن أي تغيير في الواقع لن يحدث إلا عبر تغيير هذا الوعي وهذه الأفكار، بينما أثبتت التجارب التاريخية في مختلف بقاع العالم أن حركة التغيير تنطلق من واقع مادي سيء ثم ترتفع من خلال هذه الحركة درجة الوعي وتتبلور بسببها الأفكار، فالتغيير في أوروبا مثلاً لم يحدث إلا عندما ثارت الطبقة البرجوازية (التي كانت تقدمية في ذلك الوقت) على الواقع المحكوم بسلطة الإقطاع المتحالف مع الكنيسة وتطورت بعدها أفكار الطليعة السياسية الثائرة وتطور بعدها وعي المجتمع الأوروبي، وهذا لا ينفي وجود دعوات الاستنارة المنطلقة من مجموعة محدودة متطورة نوعياً تمثلت بالعلماء والفلاسفة؛ إلا أن هذه الدعوات لم تكن الحاسمة في إشعال جذوة الثورة ولكن استيعاب الشعوب الأوروبية لسوء الواقع المادي هو ما أشعلها ونمّاها، وما تزال هذه الانتقادات الموضوعية موضع جدل واسع بين المثاليين من تيارات دينية وتيارات ليبرالية (هيغلية) والماديين من تيارات تقدمية يسارية.
وعندما أتحدث عن معاداة الخط التقدمي اليساري عموماً فأنا أدرّجها من المعاداة الطبقية والمعاداة الفكرية بالقول وحتى المعاداة العنيفة بالفعل مروراً بالتحريض والتحجيم والإقصاء، وهذه المعاداة سأقسمها إلى مستويين: عالمي ومحلي في الكويت حتى يسهل علينا تحليلها ونقدها وتشريحها والبحث عن دوافعها. معاداة الخط اليساري عالمياً تنحصر بسببين أولهما: استيعاب المؤسسات الرأسمالية الضخمة أن هذا الخط هو التهديد الحقيقي لمصالحها لأنه يعرّي طبيعتها الاستغلالية الساعية نحو الربح ولا شيء سوى الربح وينسب أغلب مظاهر التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي العالمي لهذه الطبيعة الاستغلالية لأنها السبب الرئيسي في الكوارث الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في التهميش والفقر والأمية والمعاناة وسوء التغذية وتراجع الوضع الصحي الذي يلف الطبقات العاملة والفقيرة عالمياً، وثانيهما: انطلاء خدعة البروباغاندا الإعلامية على الشعوب التي صوّرت التجارب التقدمية اليسارية العالمية بأنها محور الشرور وسبب تدهور الأوضاع السياسية في العالم وأنها تدعم العنف وجعلتها تقتنع بالمقابل أن جرائماً مثل إلقاء قنابل نووية على هيروشيما وناجازاكي، واحتلال ڤيتنام، ودعم القوى الدينية المتطرفة في حرب أفغانسان ثم احتلالها، هي أفعال هدفها الإنسانية ونشر الحرية والديمقراطية. أما مظاهر هذه المعاداة عالمياً فهناك أمثلة كثيرة عليها مثل الحركة المكارثية المعادية لكل ما هو تقدمي يساري والتي انتشرت في أميركا في بداية خمسينيات القرن الماضي، المذابح التي تعرض لها مئات آلاف اليساريين في اندونيسيا أواسط الستينيات، دعم الانقلاب الفاشي على الحكومة اليسارية المنتخبة في تشيلي عام ١٩٧٣، محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة على تشاڤيز في ڤنزويلا، محاصرة كوبا اقتصادياً وعسكرياً، دعم الانقلاب على حكومة مصدق الإيرانية في خمسينيات القرن الماضي ومحاربة كل مظاهر اليسار في أوروبا الشرقية بعد انهيار التجربة الاشتراكية فيها.
وأما على المستوى المحلي في الكويت فأستطيع تصنيف حالات معاداة الخط التقدمي اليساري إلى: أولاً عداء تاريخي من قبل السلطة لكل ما هو تقدمي ويساري لأنه هو من يحدد طبيعة الأزمة الرئيسية في البلد ويدعو إلى الخروج من هذه الأزمة عبر استكمال النظام البرلماني الديمقراطي في ظل وجود الأحزاب، ثانياً عداء من قبل البرجوازية الكويتية لأنها تعتقد أن هذا الخط هو من يهدد مصالحها تهديداً مباشراً عبر فضحه لطبيعتها الاستغلالية والمستنفعة من السلطة وكذلك من خلال الدعوة لتغيير الواقع السياسي والذي يشكل الحاضنة لاستمرار استغلالها واستنفاعها، ثالثاً عداء من قبل الأفراد الذين يشكلون المجموعات التي ترتزق من الفتات الذي ترمي به السلطة لها ومجموعات الساعين إلى الحصول على مناصب أو امتيازات من هذه السلطة ويشكل الخط اليساري التقدمي حالة من التنغيص على ارتزاقها وكذلك حالة من التهديد لاستمرار هذا الارتزاق، رابعاً عداء الأحزاب الدينية التي تحاول تصوير اليساريين على أنهم معادون للدين، خامساً عداء من القوى التي تدّعي الاستنارة الفكرية وتتبنى منهجاً (مثالياً) لتحليل الواقع وتعتقد أن هذا الخط سيفسد عليها مشروعها التنويري الوهمي من خلال تحالفاته المرحلية المستحقة لخدمة نضاله وكذلك بسبب الجهل بطبيعة هذا الخط وهدفه أو قلة المعلومات عنه وعن تاريخه وربما بسبب معلومات مغلوطة عنه، سادساً عداء من مجموعة محدودة من اللادينيين المتذمرين من ثقافة المجتمع والتي تحول عندها هذا التذمر إلى حالة نفسية مرضيّة رافضة للموروث بسبب تدني استيعابها لطبيعة تطوره وتغيّره مع الزمن، وسابعاً عداء من مجموعة من السطحيين ممن لهم مشاكل شخصية (قد تكون مستحقة أو غير مستحقة) مع بعض الأطراف الفاعلة في هذا الخط التقدمي اليساري مما يجعلها تصب جام غضبها الطفولي عليه.
في النهاية سأؤكد مجدداً على أن وجود هذه المعاداة للخط التقدمي اليساري لا ينفي وجود انتقادات موضوعية معتبرة وجديرة بالنقاش والحوار لإثراء هذا الخط وبالتالي تطويره وتعديله بما يتناسب ودرجة تطور مجتمعنا.
-------------------------------------*عضو التيار التقدمي الكويتي.