عاد صراع الرأسمالية العالمية مع النظام الاشتراكي الذي كان قائماً في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية بعوائد إيجابية على الأولى، لجهة أنها وجدت نفسها مضطرة لتطوير أدائها، وتوسيع دائرة الحماية الاجتماعية للمواطنين لتشمل فئات واسعة من العمال ومحدودي الدخل والفئات الوسطى، حدّ محاكاة بعض أوجه أنظمة الرعاية المتبعة في البلدان الاشتراكية. كانت الغاية هي إضعاف مطالبات الأحزاب اليسارية والنقابات والحركة العمالية عامة التي كان لها صوت مسموع ومؤثر في الدول الرأسمالية، بالأخذ بالاشتراكية نظاماً في إدارة الدولة. وهكذا نشأ ما كان يطلق عليه دولة الرفاه الاجتماعي، التي طبعت المرحلة المتقدمة للرأسمالية، بعد تجاوز دمار الحرب العالمية الثانية. ومع تجذّر مظاهر هذا الرفاه، الذي وجدنا له تجليات أكثر وضوحاً في البلدان الإسكندنافية خاصة، أصبح لدى الرأسمالية في وضع أفضل إزاء الصعوبات التي عانتها الدول الاشتراكية جراء الكلفة الباهظة للحرب الباردة وسباق التسلح والعزلة المفروضة عليها من الدول الغربية، فضلاً عن بعض مظاهر البيروقراطية والترهل، ما عجل بتحقيق الرأسمالية لهدفها بإسقاط الأنظمة الاشتراكية. يومها تنفست الرأسمالية الصعداء، وعادت القهقرى لما كانت قد اضطرت للتراجع عنه من صور التغول والتوحش، وأطلق الثنائي ريجان - تاتشر، يومها، النسخة الجديدة من الرأسمالية، رأسمالية ما بعد الحرب الباردة، التي عرفت بالنيوليبرالية، وتضمنت تدابير صارمة ضيقت مجدداً من مساحة الرعاية الاجتماعية، عبر تدابير من نوع تحويل أنظمة الصحة والتعليم إلى السوق عبر خصخصتها، ورفع سن التقاعد وإفراغ قوانين العمل من محتواها الاجتماعي، وتقليص دور الدولة. «كوفيد - 19» وضع هذه الليبرالية الجديدة على المحك. لم يعد للرأسمالية المتطورة، في نسختها المعولمة، الكثير كي تتباهى به. ها هي أنظمة الرعاية الصحية في أكثر دولها تقدماً ونفوذاً كأمريكا وبريطانيا عاجزة عن السيطرة على الموقف، فعدد المصابين بالفيروس اليوم تجاوز الثلاثة ملايين إنسان، فيما كان قبل نحو أسبوع لا يتجاوز المليون.
في زمن ماوتسي تونج بالصين أطلقت حملة للرعاية الصحية في الأرياف عرفت ب «الأطباء الحفاة» Barefoot doctors ، حيث جال هؤلاء الأطباء البر الصيني الشاسع لمعالجة القرويين مجاناً في قراهم. كان بعض هؤلاء الأطباء هم أنفسهم من المزارعين الذين تلقوا بعض التدريبات الطبية الأساسية في النظافة والوقاية وتنظيم الأسرة وعلاج الأمراض الشائعة. هؤلاء «الأطباء الحفاة» الذين كانوا موضع تندر الدول الغربية المتطورة وسخريتها، أحدثوا فرقاً كبيراً في الوعي الصحي لدى مواطنيهم وحموهم من الكثير من الأمراض والأوبئة. ألا يجدر السؤال عما إذا كان النظام الصحي الذي بنت دعائمه سواعد «الأطباء الحفاة» برهن على أنه أكثر فاعلية من النظام الصحي المحمي من الليبرالية الجديدة؟. أليس الموضوع جديرًا بالتفكر؟