ما قيمة أن تعتقد بفكرة لا يحقّ لك التعبير عنها؟ بعبارة أخرى، ما قيمة حرية التفكير في ظلّ غياب حرية التعبير؟ لدينا دستور يتيح للعقل الاعتقاد بما يشاء، لكنه في الوقت نفسه يضع "فلترا" على اللسان، فحسب المادة (35) من الدستور الكويتي، "حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقا للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب"، وأما تفسير هذه المادة فقد جاء في المذكرة التفسيرية على النحو التالي:"تقرر هذه المادة "حرية الاعتقاد" مطلقة لأنها ما دامت في نطاق "الاعتقاد"، أي "السرائر"، فأمرها إلى الله، ولو كان الشخص لا يعتقد في دين ما. فإن جاوز الأمر نطاق السرائر وظهر في صورة "شعائر" وجب أن تكون هذه الشعائر طبقا للعادات المرعية وبشرط ألا تخل بالنظام العام أو تنافي الآداب، والمقصود بلفظ "الأديان" في هذه المادة الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية. ولكن ليس معنى ذلك على سبيل الإلزام منع الأديان الأخرى من ممارسة شعائرها كلها أو بعضها، إنما يكون الأمر في شأنها متروكا لتقدير السلطة العامة في البلاد دون أن تتخذ لحريتها سندا من المادة 35 المذكورة".باستثناء هذا الأسلوب الأزهري في التعليق على النصوص القانونية، هناك ملاحظات أخرى حول هذه الفقرة تستحق التوقف عندها: أولا، هناك قصور في فهم مصطلح "الاعتقاد" وحصره فقط في "الاعتقاد الديني"؛ ثانيا، هناك نظرة غير متكافئة للأديان من حيث الحقوق والواجبات؛ ثالثا، هناك حظر واضح على الأفكار التي قد لا تنسجم مع "النظام العام"! لعلّ الملاحظة الأكثر خطورة هي هذا الاستخفاف البغيض بأهمية حرية الاعتقاد، فالمذكرة التفسيرية تقول باختصار: اعتقدوا ما شئتم ما دمتم قابعين في غرف مغلقة، لكن في الهواء الطلق لا يحقّ لكم حتى مجرد التعبير عن أفكاركم إذا كانت غير منسجمة مع الذوق العام! على ضوء هذا التفسير الدستوري لحرية الاعتقاد، بإمكان المواطن أن يقول ما يشاء حول حكمة السلطة السياسية وحسن تدبيرها لشؤون البلاد، لكن إذا كان يعتقد غير ذلك فعليه أن يناجي نفسه في غرفته، وبإمكان الفرد أيضا أن يسهب في الحديث عن الفوائد الصحية للطقوس الدينية، لكن إذا كان يرى عكس ذلك فعليه أن يضرب رأسه في الحائط حتى يعثر على ما فاته من فوائد، وإذا كان يؤمن بأن 2 زائد 2 لا يساوي 5، فعليه أن يقرأ رواية "1984" إلى جانب المذكرة التفسيرية ليقنع بأنّ ليس كلّ ما يُعرف يُقال!العائلة التي يُفاخر أفرادها بانسجامهم لمجرّد أنهم يتحاشون التطرّق إلى مواضع الخلاف تشبه في تفاخرها ذلك الراهب الذي يُفاخر بعدم ارتكابه معصية طوال حياته لمجرّد أنه لم يحاول شيئا على الإطلاق! لا يحقّ لأي مجتمع بأن يُفاخر بوجود تعدّدية قائمة على كبت حريّة الاعتقاد، والحرية المقصودة هنا لا تقتصر على حقّ كل فئة في التعبير عن معتقداتها، بل تشمل أيضا واجب كل فئة في الاستماع إلى نقد معتقداتها، ومن هنا فإنّ التعايش السلمي لا ينبغي أن يقتصر على ضمان الوجود المشترك لأفكار متناقضة، بل ينبغي أيضا ضمان إمكانية تصارع الأفكار بطريقة تخطو بنا خطوة إلى الأمام على طريق الحقيقة، فالحقيقة ليست نسبية كي نسمح بتعدّدها، وليست كتابا مفتوحا كي يدّعي أحدٌ امتلاكها.بقلم د. فهد راشد المطيريجريدة الجريدة۱٤ سبتمبر ٢۰۱٥