كلما شاهدت الدمار الشنيع الذي ألحقه جنون البشر والحقد وحب السلطة بالمدن السورية؛ تبرز من زوايا ذاكرتي، مشاهد وصور مدينة دريسدن الألمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية(1939-1945).وإذا كانت أسباب قصف المدن السورية واضحة ومعروفة؛ فإن أسباب قصف دريسدن، بهذا الشكل المخيف، غامضة حتى اليوم!فلم يكن للمدينة أهمية استراتيجية خاصة، ولا مكانة صناعية، كما أنها لم تكن من الجبهات العسكرية الساخنة رغم قربها من الحدود التشيكية.لم تشهد دريسدن، طوال الحرب، أي استهداف مؤثر حتى 3 أشهر فقط من استسلام ألمانيا في 8 مايو 1945م. ففي مساء 13 فبراير 1945م غطّى سماء المدينة ما يشبه أسراب الجراد العملاق. كانت 1200 طائرة بريطانية وأمريكية قذفت ما مجموعه 4000 طن من القنابل شديدة التفجير وسريعة الاشتعال.تركّز القصف على قلب المدينة الذي يضم المنطقة التاريخية بآثارها العظيمة ومعالمها الخالدة وتماثيلها العريقة ومراكزها الثقافية. وبعد عدة موجات من الغارات المتتالية تم مسح كل ما هو فوق الأرض من بشر وحجر على مساحة 15 كم مربع.قُتِل خلال تلك الغارات 25000 إنسان من بينهم الأطفال والنساء وكبار السن بالإضافة إلى عدد مماثل في موجات الحرائق الهائلة التي تلت الغارات.كما تم تدمير 24800 منزل من أصل 28000 منزل هي مجموع منازل وسط المدينة، أي أن المنازل التي نجت من التدمير التام لم تتجاوز الـ 3200 منزل!كان التدمير والقتل وحشيا وصادما للعالم، فتمت إدانته فورا وعلى نطاق واسع. بل وتمت المطالبة باعتبار قصف المدينة عمل يندرج ضمن "جرائم الحرب".ومازالت بعض تلك المطالبات مستمرة حتى اليوم، فقد وصف البرفسور غريغوري ستانتون وهو أهم المتخصصين في جرائم الحروب، ومؤسس ورئيس "مركز مراقبة عمليات الإبادة" ويُعد مرجعا موثوقا في هذا المجال، وصف قصف دريسدن بأنها "جريمة حرب واضحة وعملية إبادة جماعية ضد الإنسانية لا تقل وحشية عن الهولوكوست اليهودي وقصف هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذري".لم يمض وقت طويل على توقف الحرب حتى بدأت دريسدن تنفض غبار الحرب وتلملم أشلاءها وتمسح الدماء والدموع عن وجهها وتنهض من تحت الرماد.لم يكن ممكنا إحياء قتلى المدينة، فقام الأحياء بدفن أحزانهم إلى جانب موتاهم، وقرروا إحياء مدينتهم من الموت مجددا، فعادت دريسدن كما كانت وأجمل.الدمار الذي لحق بالمدن السورية ليس أسوأ من الدمار الذي لحق بدريسدن رغم أن الحرب السورية أطول عمرا من الحرب العالمية، الفرق هنا يتمثّل في أن شهوة الحقد القتل والتدمير في الحرب العالمية قد أُلجِمت بينما ما زالت مثيلتها في سوريا نهمة ومنفلتة ولم تجد من يلجمها.سوريا لن تتعافى مادامت القنابل والحقد والكراهية تروّع حمائمها وتهرس ياسمينها وتقتل أطفالها.لا يوجد بريء في حرب سوريا، فالأبرياء في الحروب هم الضحايا فقط.كاذبُ..من خاض الحرب في سوريا دفاعا عن الدين.كاذبّ.. من رفع البندقية في سوريا لدعم الثورة.وكاذبُ.. من حمل السلاح في سوريا دفاعا عن سوريا.لم يعد في سوريا دين..ولم تعد سوريا صالحة للثورة..ولم تعد سوريا في سوريا.سوريا لا تريد من يرفع السلاح من أجلها. هي الآن في أمسّ الحاجة لمن يرمي السلاح من أجلها.سوريا تريد أن تجلس على الأرض وتتنفس بعمق وتهدأ... وحينئذٍ ستعود أجمل مما كانت.بقلم عبدالهادي الجميل