استهداف الهوية العربية
تعرَّضت الأمة العربية، منذ فجر تاريخها، إلى حملات وهجمات استهدفت هويتها وثقافتها ولغتها وحضارتها ودينها ووحدة شعوبها، وتنوَّعت تلك الحملات بين داخلية، نبعت من المحيط الإسلامي أثناء اتساع الدولة الإسلامية، ودخول القوميات غير العربية فيها، كالفرس والأتراك والأكراد، وخارجية وفدت إلينا من حملات المستعمر الأجنبي.
ففي البدء، كانت الحركة «الشعوبية»، التي نمت من خلال سياسة الإقصاء، التي تبنتها الدولة الأُموية ضد الموالي (المسلمون من غير العرب)، التي احتكرت السلطة والمناصب العليا في الدولة لبني أمية والقبائل العربية، ما أشعر الفرس بالغبن والتهميش، فانتقلوا إلى ضفة المعارضة للسُّلطة، مع العلويّين وبني العباس، تمهيداً لولادة هوية قومية عنصرية معاكسة ومشاكسة، تستهدف الحط من العرب وحضارتهم وقيمهم، والإعلاء من شأن الفرس وحضارتهم وأمجادهم، ومتحسرةً على إمبراطوريتها الكسروية، التي تلاشت مع الفتح الإسلامي.
وقد كانت المعارك الأدبية والثقافية، آنذاك، زاخرة بهذا التوجه الشعوبي العنصري في الشعر والأدب، كقول أبي نؤاس في قصيدة له ساخراً من العرب ومساكنهم البدائية، وحياتهم الفقيرة، وطرقهم الضيقة:
لا تأخذ من الأعراب لهواً
ولا عيشاً فعيشهم جديب
فأين البدو من إيوان كسرى
وأين من الميادين الزروب
وقد لعبت سياسة «التتريك» العنصرية في الدولة العثمانية، التي بدأت متأثرةً بصعود الحركات القومية بأوروبا في القرن التاسع عشر، دوراً آخر في إقصاء العرب من المراكز القيادية، ما دفع بالعرب إلى طرح مشروع القومية العربية والاستقلال من هيمنة القومية التركية الطورانية المتسيّدة، ومع ذلك، لا يمكننا أن ننسف المساهمات العظيمة التي قدمها الفرس المسلمون للحضارة العربية-الإسلامية، بسبب موقف عنصري ومنحاز، هنا أو هناك.. يكفي أن نذكر أعلاماً، كالنحوي سيبويه، والأديب عبدالله ابن المقفع، والفقيه العقلاني أبوحنيفة النعمان الكوفي، وكذلك أيضاً حافظت الدولة العثمانية على وحدة البلاد العربية من خطر الانقسام والتفكك.
أما العامل الخارجي الأجنبي، فكان دوره أعظم وأقوى في تمزيق الهوية العربية، فقد أدرك المستعمرون أهمية اللغة العربية والإسلام، كهويتين متشابكتين ومتداخلين تجمع وحدة العرب والمسلمين في هذه البقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وقد كان للاستعمار الفرنسي حصة الأسد في استهداف الهوية العربية، فحين وطأت قدمه شمال أفريقيا (المغرب – الجزائر – تونس) واحتل الجزائر 1830، عمل على فرض سياسة «الفَرْنسة والتبشير»، والتضييق على تعليم اللغة العربية، تمهيداً لإلحاق الجزائر بفرنسا، فما كان من علماء الجزائر، وعلى رأسهم المصلح الديني الكبير عبدالحميد بن باديس، إلا أن هبّوا لمواجهة الاستعمار وسياسة الفرنسة والتغريب والتبشير، بإحياء تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم ونشر الثقافة الإسلامية، ودحض ادعاء المستعمر القائل إنّ «الجزائريين لا يشكلون أمّة، لأنهم عرب وبربر».
تكريس البُعد العروبي والإسلامي في وعي الشعب الجزائري ساعد في ما بعد على انطلاق الثورة الجزائرية المجيدة، رافعة أحد شعارات ابن باديس «الإسلام ديني، والعروبة لغتي، والجزائر وطني»، فأنهت الاحتلال، بعد نضال طويل وتضحيات كبيرة.
وفي مطلع القرن العشرين، فرضت فرنسا اتفاقية الحماية على المغرب في 30 مارس 1912، ولجأت إلى الأدوات الاستعمارية نفسها، فحاولت ضرب الوحدة الوطنية بين المغاربة العرب والبربر (الأمازيغ)، عبر فك ارتباط البربر بالعروبة والإسلام، عن طريق نشر اللغة الفرنسية وحملات التبشير، ومع ذلك فشلت.
ولم يكن المشروع الصهيوني، الذي أعلن عن قيام دولته المشؤومة في فلسطين 1948، وإلغاء هوية فلسطين العربية، وتحويلها إلى وطنٍ قومي لكل اليهود في العالم، إلا ضربة أخرى للهوية العربية.
إن تلك اللمحة التاريخية السريعة والموجزة، تفسر لنا أن أجندة الاستعمار القديم لا تختلف عن الحديث، وإن تغيَّرت المسميات، فليس مستغرباً أن يشطب المحتل الأميركي هوية العراق العربية، وأن يتعامل مع العراقيين على أسس مذهبية وعرقية وإثنية، أي كشيعة وسُنة وأكراد وتركمان، مع أن أكثرهم عرب ومسلمون – والعرب هم السواد الأعظم ويشكلون نحو 80 في المائة من مجموع السكان في العراق – وذلك حتى يسهل عليه في ما بعد تقليب فريق على الآخر، تنفيذاً لمشروع التقسيم والتفكيك والأقلمة.
السيناريو المشبوه نفسه يتكرر اليوم مع الأزمة السورية، بعد أن تدخلت فيها الأيادي السود، وحولت الثورة إلى صراع طائفي دموي، فبات التقسيم هو الحل!
فضلاً عن التخريب المنظم والسرقة التي تتعرض لها متاحف العراق وسوريا، وسرقة آثارها، والاعتداء المستمر على دور العبادة، من مساجد قديمة وصوامع وكنائس أثرية من قِبل عصابات ظلامية مشبوهة، وهي أيضاً محاولة لحرق تراث الأمة.
إن العروبة، باعتبارها شعوراً وجدانياً، وهويةً جامعةً، ومشروعاً سياسياً وحضارياً، قادرة على دحض مشاريع التقسيم والتجزئة، وإعادة رسم خرائط المنطقة، إذا تجاوزنا أخطاء الماضي وخطاياه، فالتشبث بالهوية العربية لا يعني الانغلاق، ورفض التنوع والتعدد في الهويات، داخل كل مجتمع عربي، بل يجب أيضاً أن نؤمن بحق كل جماعة بشرية، في أن تُمارس هويتها وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية، تحت مظلة الحرية والمواطنة والمساواة والعدل، شريطة ألا تفت عضد الاجتماع والوحدة، وهذا ما عبَّر عنه الراحل د.عبدالوهاب المسيري، بمصطلح «الوحدة الفضفاضة».
بقلم عضو التيار التقدمي أحمد الجاسم
جريدة الطليعة
٢٦ أغسطس ٢۰۱٥