"اش لك بالسياسة؟"
بقلم: د.فواز فرحان*
تلجأ الطبقات المسيطرة على المجتمعات إلى تشتيت تركيز الطبقات المُسيطَر عليها عن الصراع الرئيسي معها عن طريق أساليب كثيرة؛ منها إثارة الصراعات الجانبية غير الحاسمة في إحداث التغيير المطلوب مثل الصراعات الفئوية (الدينية والطائفية والعرقية والمناطقية) وكذلك عن طريق تشويه وعي الطليعة التي من المفترض أن تكون واعية وعرقلة ارتفاع وعي الناس عموماً. وهذا الدور الذي تقوم به الطبقات المسيطرة يدرجه البعض تحت باب (نظرية المؤامرة)... وبالطبع فإنّ المؤامرات تشكّل جزءاً مهما من التاريخ ولكن التاريخ ليس مجرد مؤامرات.
وإذا أسقطنا هذه المقدمة على واقعنا السياسي في الكويت سنلاحظ وجود سلطة ذات نهج مشيخي تسعى جاهدة بكل ما تملك من وسائل وأساليب مباشرة أو ملتوية لعرقلة التطور الديمقراطي في البلد بهدف الإبقاء على النظام الدستوري الأعرج الحالي لتستمر هي وحلفها الطبقي في نهب مقدرات بلدنا وشعبنا، وسنلاحظ كذلك أن مجريات الأحداث السياسية منذ اليوم الأول لإعلان ولادة (دستور الحد الأدنى) أغلبها تشير إلى دور السلطة في إثارة الصراعات الجانبية بهدف تشتيت الجهود التي تصب في صالح الصراع الرئيسي. وذلك ما حدث عبر التقسيم الفئوي للدوائر الانتخابية في عام ١٩٨٠، وقانون الجنسية الذي يقسّم الكويتيين إلى فئات بحسب رقم مادة القانون، والتجنيس السياسي بهدف ترجيح كفة سلطوية معينة، وتحالف السلطة تارة مع تيارات دينية من طائفة معينة ومع تيارات دينية من طائفة غيرها تارة أخرى، وإثارة التيارات السياسية على بعضها من خلال صراعات وهمية بقانون منع الاختلاط مثلاً رغم أن هذه التيارات لا تشكل الحكومة أساساً، ودعم منابر إعلامية فاسدة لتوجيه سهام الحقد نحو فئات اجتماعية معينة، ناهيك عن تأجيج المشاحنات والمهاترات تحت استقطابات (إسلامية-علمانية) أو (سنية-شيعية) أو (دينية-لادينية)... فهذه كلها أمثلة ملموسة تشير إلى دور السلطة في إثارة الصراعات الجانبية بهدف تخفيف حدة الصراع الرئيسي معها ومع حلفها الطبقي المسيطر ، أو حتى إخماده نهائياً!
ثم نأتي إلى أسلوب السلطة الآخر لتشتيت الجهود والأنظار عن الصراع الرئيسي والمتمثل بتشويه وعي الطلائع السياسية أو حتى المثقفة وكذلك بعرقلة تطور وعي الناس عموماً عن طريق تسفيه العمل السياسي وإثارة الشكوك حوله. فالسلطة خصوصاً والحلف الطبقي المسيطر عموماً دائماً يدفعون أبواقهم الإعلامية إلى إثارة ونشر جملة (اش لك بالسياسة؟)، وهذه الجملة تكاد تكون مترسخة في العقل الباطن للناس بسبب ترويجها من خلال وسائل الإعلام المختلفة والمناهج التربوية وكذلك من خلال استخدام الشخصيات العامة التي دخلت في عباءة السلطة لمحاولة جعل هذه الجملة من المسلمّات. فالسلطة وحلفها الطبقي المسيطر يعلمون جيداً أن التغيير نحو النظام البرلماني الديمقراطي الكامل يأتي من خلال عمل سياسي منظّم ومشاريع واضحة تعمل من خلالها التيارات السياسية، لذلك يلجؤون إلى تسخيف العمل السياسي وترويج الفكرة القائلة بأن السياسيين انتهازيون وأن السياسة مضيعة للوقت وتفريق للجماعة وربما تؤدي إلى ضرب ما يسمى بالوحدة الوطنية، وترى لسان حال السلطة يقول للمهتمين بالشأن العام سياسياً: "ياخي اش لك بالسياسة؟ اشتغل في نشاط الحفاظ على البيئة مثلاً! ولا تدري شلون؟ إنت مهتم بالمجال الحقوقي، ليش ما تركز جهدك على مجال حقوق الإنسان وتترك عنك الدوخة وعوار الراس اللي بيجيك من ورا السياسة؟"، رغم أهمية مجالي البيئة وحقوق الإنسان إلا أنهما من غير وعي سياسي أو بشكل أدق من غير خط سياسي واضح سيكونان مجرد تحصيل حاصل وغير حاسمين في إحداث أي تغيير أو تطوير. ومع الأسف انجرفت بعض النخب المثقفة مع موجة جملة (اش لك بالسياسة) وباتت تروّج لفكرة أن التغيير يبدأ بإصلاح النفس أولاً ثم إصلاح المجتمع من خلال نشر ثقافة التسامح وزرع الثوابت الديمقراطية وإشاعة روح الدفاع عن الحريات من خلال برامج تثقيفية أو ورش عمل أو إقامة ندوات ثقافية أو حتى الترغيب بالقراءة واقتناء الكتب! وهذا الخط الذي تتبناه هذه النخب المثقفة أضعه في خانة التفكير المثالي والذي يؤمن أن الفكرة والوعي تسبقان الواقع المادي، بينما كل الأحداث التاريخية تثبت العكس تماماً؛ وهو أن الفكرة والوعي ينطلقان من الواقع المادي الملموس وأن تغيير المجتمع يكون من خلال تغيير سياسي-اقتصادي تقوده طليعه واعية لينتج عن هذا التغيير لاحقاً تغييراً على مستوى ثقافة المجتمع.
ما أريد تأكيده هو أن العمل السياسي المنظم من خلال تبني أفكار واضحة تهيئ لولادة مشروع متكامل هو السبيل الأوحد نحو إحداث التغيير، وليس ما تروج له الطبقات المسيطرة والنخب الثقافية التي دخلت في عباءتها (متعمدةً أو غير متعمدة) من أفكار ومفاهيم لا دور حقيقياً لها في إحداث هذا التغيير.
-------------------------------
*عضو التيار التقدمي الكويتي.