قراءة ما بين سطور هيكل
ليس من السهل واليسير لصحافي شاب في بداية مشواره، أن يُصاحب زعيم تاريخي، رُفعت صوره وشعاراته في معظم الميادين العربية، فتولّى كتابة خطاباته الجماهيرية، وفلسفته للثورة، بعد أن يعطيه الزعيم رؤوس الأقلام والأفكار الرئيسة (باستثناء خطاب الوحدة – فبراير 1958، وفق إفادة الخبير بالحركة الناصرية د.كمال خلف الطويل)، أي أننا أمام صحافي ذكي ونابغ جداً، وصانع ماهر للجُمل، لعب أدواراً كثيرة في محطات التاريخ مع عبدالناصر والسادات، والتقى شخصيات تاريخية ومهمة في حينها، من ملوك وزعماء وسفراء وثوار ومفكرين وأدباء، كالشاه والخميني وعرفات وإدوارد سعيد، ومحمود درويش و… ، وقد صال وجال في الأرض، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، من أميركا وبريطانيا إلى روسيا والصين والهند وإيران والخليج ولبنان و…، ما أكسبه ثقافة واسعة، ومعرفة دقيقة في تسجيل أحوال البلدان وأحداثها.
إنه محمد حسنين هيكل، الذي أثارت آراؤه الكثير من العواصف ضده، وصلت إلى حد التشكيك في مصداقية أحاديثه ولقاءاته مع الشخصيات، آخرها كان حواره مع أ.طلال سلمان في «السفير»، حيث أشاد «بالسياسة الإيرانية، وصمودها في المفاوضات مع الغرب، من أجل الاتفاق النووي، مشيرا إلى إمكانية نهضة إيران مرة أخرى، وتحللها من قيد العقوبات، ما سيمكنها من العودة للمنطقة العربية بقوة، مستعيدةً دورها التاريخي فيه»، في ظل غياب مشروع عربي حقيقي يجمع شتات الأمة، ويُوقف الحروب وشلالات الدم، وقال أيضاً «إن دول الخليج لا تملك مقومات البقاء، مقارنة بإيران»، وقد تنبأ أيضاً بأن «تتحوَّل الأزمة في اليمن إلى مستنقع سيغرق فيه دعاة الحرب…».
إن هذه التصريحات كفيلة بأن تشعل حفلة الزار في مواقع التواصل الاجتماعي ضده، واتهامه بالخرف والزهايمر، والعمالة لإيران، والعنصرية ضد دول الخليج.. وكلها ردود فعل سريعة، واتهامات رخيصة لصحافي مخضرم، واسع الاطلاع، خبير بالمنطقة والعالم، مثير للجدل والغضب.
عموماً، هي ليست المرة الأولى التي يتم فيها انتقاده، والسخرية من تحليلاته.. أتذكر في بداية انطلاق الاحتجاجات (الربيع العربي)، وصف هيكل ما يحدث في العالم العربي، بأنه مقدمة لإعادة رسم خرائط في المنطقة، أي «سايكس بيكو» جديدة، فاستقبلت النخب العربية هذا التصريح باستياء وسخرية، حتى دعاه بعض الكُتاب اللامعين في الكويت إلى الاستقالة أو التقاعد! لكن سرعان ما تغيَّرت الأحوال، فتبنت نفس هذه النخب الناقدة وجهة نظر «الأستاذ»! ولربما كان هذا الموقف، هو السبب في إبعاده من شاشة «الجزيرة».
لهيكل كعب عالٍ في الصحافة المصرية والعربية والأجنبية، وقد أُجريت عنه عدة دراسات، أهمها -وفق ما قرأت – ما كتبه الراحل الفذ الفيلسوف فؤاد زكريا في دراسته العميقة (كم عمر الغضب)، التي حاول فيها تفكيك سر غضب حسنين هيكل من السادات، وانقلابه عليه في «خريف الغضب»، وأورد ملاحظات ومآخذ على هيكل، جديرة بفهم غضبه وتقلباته من عهد لعهد، ومن رئيس لرئيس آخر، منها:
-1 أن نقده اللاذع للسادات لم يظهر إلا بعد وفاة الأخير.
-2 بالغ هيكل في الحديث عن أثر فقر عائلة السادات، والعقدة من لونه الأسود، وانعكاس ذلك على سياسته، وسلوكه في البذخ والإسراف ومعاداة الفقراء.. وهذا تحليل سطحي، إن لم يكن عنصريا وطبقيا من قبله.. فعبدالناصر كان أيضاً من أسرة فقيرة، ولم يمنعه ذلك من الشعور بمعاناة الفقراء، وسعيه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
-3 هيكل العالم والعارف بأدق التفاصيل عن سيرة السادات وتوجهاته المشبوهة، واتصالاته المريبة من أيام تنظيم «الضباط الأحرار» وعمالته للقصر، ومع ذلك لم يمنع نفسه من التماهي مع السادات الرئيس، والوقوف معه والدفاع عن شرعيته وسياساته، قبل أن يسجنه، ولم يفترقا إلا بعد عام ١٩٧٤.
-4 يشكك الراحل فؤاد زكريا بناصرية هيكل، والتزامه بقضايا الشعب، من خلال زاويتين:
الأولى: اندماجه في بداية مشواره بمدرسة صحيفة «أخبار اليوم»، الموالية للقصر الملكي، والمختصة بضرب حزب الوفد، وهو حزب القوى الشعبية، ولم يبدِ هيكل أي تمرد على سياستها.
الثانية: مهاجمته للجناح الوفي من ورثة عبدالناصر، وقد كتب مقالاً في بداية عهد السادات يشير إلى انقلابه على صاحبه الأول «عبدالناصر ليس أسطورة».
وأنا أضيف أن هيكل لم يظهر حتى الآن أي انتقاد لسياسة السلطة ما بعد 30 يونيو، حتى وهي تزج بالمعارضين في السجون وإلى مقاصل الإعدام، كذلك لم يعترض على مجزرتي رابعة العدوية والنهضة، ولم يسبق له أن اشترك بتظاهرة شعبية ضد السلطة، وقد التزم الصمت طيلة حكم مبارك، بعكس بعض الناصريين والمثقفين، مثل عبدالحليم قنديل والراحل د.عبدالوهاب المسيري.
-5 لم يقدم هيكل تفسيراً مقنعاً للقارئ العربي عن مسوغات اختيار عبدالناصر للسادات خليفةً له، على الرغم من كل ما يحيط بالرجل من شبه فساد وعمالة ومعاداة للشعب وميول أميركية وتطبيعية.
خلاصة القول في الكتاب «إن الأستاذ الكبير استفاد من عبدالناصر، وحقق شهرة واسعة لشخصه الكريم، لكنه لم يكن وفياً له، أو حتى مقتنعاً بمبادئه»، وللحديث بقية..
٢٩ يوليو ٢۰۱٥
جريدة الطليعة