مقال للزميل د. فواز فرحان تحت عنوان “اليسار الكويتي... هل هو ترف فكري ووجود غير مبرر؟!”
عندما سمع مني كلمات مثل (يسار) و(تقدميّة) انطلقت من عينيه نظرات الاستغراب المختلطة بالاستهجان وساهم وجهه بإضافة مسحة (الاستكثار) على مثل هذه المصطلحات التي عفا عليها الزمن -كما يعتقد- ولم يعد لها وجود وخصوصاً في بلد مثل الكويت حيث تكفل الدولة الإنسان منذ صرخته الأولى وحتى صرخة من هو عزيز عليهم بل حتى بعد ذلك أيضاً في توفير مرقد أخير له! في الحقيقة صمتُّ في أول ثوانٍ بعد تعليقه هذا لأنني ترددت بين شرح منطلقاتي وما يحيط بها من تراكمات تاريخية وظروف حالية وبين إكمال فنجان قهوتي على الحديث عن آخر صرعات التكنولوجيا أو ربما نكتة لطيفة تنسينا -مؤقتاً- أخبار المحاكمات اليومية لشباب الحراك!
قررت أن -أغسل مخه- كما يحب أعداء الإيديولوجيات تسمية الحديث عن الفكر بمختلف جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية فبدأت بتعريف بسيط لليسار على أنه النزعة نحو تغيير الوضع الراهن إلى أفضل منه لصالح الغالبية الساحقة من الناس، وذلك بالسعي نحو أهداف تتقدّم بالمجتمع إلى الأمام في كل جوانب الحياة، وذكرت له بأن حجر الأساس الذي ينطلق منه (اليسار) وتسعى لتثبيته (التقدمية) يتمثل بالعدالة الاجتماعية، وهذه الأخيرة تتلخص بـ: إزالة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والاستغلال الطبقي عن طريق نظام يسود فيه القانون الذي يساوي بين جميع الناس وتتكافأ فيه الفرص ويُحجَّم به استغلال الموظفين والعاملين بأجر من قبل الطبقة العليا المسيطرة على المجتمع، وصولاً إلى انهائه.
قاطعني قائلاً: ممتاز! وكلام جميل! ولكنني لا أعتقد بأنه قابل للتطبيق.. فقلت له: إن كان ممتازاً وكلاماً جميلاً فلماذا هو غير قابل للتطبيق؟ ألا تعتقد بأن فكرة عدم قابليته للتطبيق يروّجها المستفيدون من الوضع الراهن غير العادل أو مَنْ تدنّت همتهم لدرجة أنهم باتوا يرضون بالفتات الذي يُرمى لهم كجزء لا يُذكر مما أنتجته قواهم العضلية أو الذهنية؟ لو آمن الناس بأن دعوات التغيير مجرد أفكار عادلة وجميلة ولكنها غير قابلة للتطبيق لظل الناس في عهد المشاعية البدائية، ولما انتقلوا إلى عصر الزراعة والاستقرار عند المدن، ولظّل العبيد يرزحون تحت قيودهم في عصر الرق ولما تحرروا وأصبحوا فلاحين أو صنّاعاً، ولقبلت البرجوازية -عندما كانت تقدمية- بظلم وجور الإقطاع وسطوة الكنيسة في أوروبا! إنّ تبني أفكار كما تسميها جميلة وكما أسميها تقدمية وتسعى لتطبيق العدالة الاجتماعية كانت تنطلق دائماً من واقع غير عادل وبه ظلم واستغلال من قبل طبقة مسيطرة تستحوذ على خيرات المجتمع، وهذه الأفكار هي انعكاس للصراع الطبقي الذي يعتبر هو الصراع الحقيقي في كل المجتمعات، وعموماً هذا الصراع مع الطبقات المسيطرة والمُستغِلة للطبقات التي تحتها كان ومايزال هو المحرّك للتطور التاريخي الذي مرّ و يمر على المعمورة.
أشار إلى تأييده لكثير من هذه الصراعات في الكثير من الدول لكنه استبعد وجود مثل هذا الصراع في الكويت مدلّلاً على نظرته بأن أغلب الكويتيين يعيشون في المستوى الاجتماعي نفسه تقريباً... فكان أوّل استفسار منّي له لدحض هذه النظرة هو: هل أنت وجاسم الخرافي أو محمد الصقر مثلاً تنتمون إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها رغم التشابه الكبير في مظاهر رغد العيش التي تبدو عليكم جميعاً؟ بل ربما قد يكون (هاتفك) أو (دشداشتك) أغلى ثمناً مما عند جاسم أو محمد؟ استوعب فجأة أنّ هذا الشكل الخارجي لا يحدد الانتماء إلى طبقة معينة فتساءل: وما هو سبب عدم وضوح هذا الفرق الطبقي في الكويت؟ فكان تلخيصي لأسباب ذلك في الآتي: طبيعة اقتصاد الدولة المعتمد على بيع النفط وقدرة الدولة مالياً على (الصرف) على الشعب من غير أن تطلب منهم أن يكونوا منتجين فعليين شوّهت الطبقة البرجوازية وجعلتها متطفلة ومعتاشة على ما تقدمه الدولة من مناقصات واستثمارات وكذلك شوّهت الطبقة العاملة وجعلتها في معظمها غير منتجة واستهلاكية في الوقت نفسه، فاختفت (ظاهرياً) الفروقات الطبقية ولكنها (فعلياً) موجودة إذا ما قارنّا بين ما تمتلكه الطبقتان من مال وعقار وحجم ما تحصلان عليه من مداخيل، ولنضع في الحسبان سعي البرجوازية الدائم لتشويه الفروقات الطبقية لكي يتشوه الصراع الحقيقي ومن ضمن أساليبها لهذا التشويه هو إيحائها للطبقات التي تحتها بأنها (شبه) متساوية معها عن طريق أمور تافهة وشكلية كنوعية المأكل والملبس بينما في الحقيقة ينام البرجوازي وحسابه ممتليء بالمليارات وينام العامل أو الموظف وليس لديه إلا ما يستطيع أن يأكل أو يلبس به حتى آخر الشهر و ربما أقل من ذلك.
كان آخر استفسار منه: وهل نحن مضطرون الآن إلى تصعيد هذا الصراع مع الطبقة المسيطرة (السلطة مع البرجوازية) ونحن في عيش رغيد واستقرار؟ فكان ردي البديهي: نحن لا نفتعل الصراع الطبقي ولا نختلقه من عدم، فهو موجود موضوعياً وقائم واقعياً بين مَنْ يملكون البنوك والشركات والمجمّعات العقارية والمصانع والمتاجر الكبرى وبين مَنْ لا يملكون غير قوى عملهم الذهنية والعضلية ويحصلون منها على رواتبهم وأجورهم، ويدور حول حجم ما تحصل عليه كل طبقة من الدخل والثروة، كما يدور الصراع حول سعي أصحاب رؤوس الأموال للاستحواذ على النصيب الأكبر من خيرات المجتمع ومقدرات الاقتصاد وتقليص ما تحصل عليه غالبية الشعب، وكذلك يدور هذا الصراع حول طبيعة النظام الاقتصادي، وحول الأجور والرواتب، وحول الايجارات بين الملّاكين والمستأجرين، وحول أسعار السلع بين التجار الكبار والمستهلكين، وحول الخصخصة وتصفية القطاع العام والقطاع التعاوني مع مَنْ يسعون للحفاظ على الملكية العامة، وحول البطالة وتوفير فرص العمل، وحول الإنفاق الحكومي ولمَنْ يُوجّه... لذلك فإنّ تبني الأفكار اليسارية والتقدمية ليس ترفاً فكرياً ولا تنظيراً ولكنه ينطلق من واقع ملموس بحاجة إلى التغيير لمصلحة الغالبية من الشعب، وهذا ما تحاول أن تقوم به القوى والعناصر اليسارية والتقدمية الكويتية.
وحتى بعد هذا الحوار ظلت رغبتي بارتشاف بقية فنجان القهوة على صدى نكتة لطيفة قائماً، فكانت نكتته:
اجتمع مسؤولو المخابرات في الأمم المتحدة وقرروا انتقاء فردين من المخابرات من كل دولة ليمثلاها، فذهبوا الى أمريكا وأحضروا اثنين من السي آي أي، وذهبوا إلى انكلترا وأحضروا اثنين من مقر السكوتلاند يارد، وعندما ذهبوا إلى إحدى الدول الشيوعية قيل لهم لستم بحاجة للبحث عن مقر مخابراتها فعندما تنزلون مطار هذه الدولة أحضروا أول شخصين تروهم فبالتأكيد هما من المخابرات!!
فقررت أن تكون جلستي الثانية معه عن التجارب اليسارية والاشتراكية في العالم و دورنا في الاستفادة منها وتطويرها.
د.فواز فرحان
عضو في التيار التقدمي الكويتي