الصحوة «المدنية» المباركة
لم يغب عن ذهن الشخصيات الوطنية التي طالبت بالدستور والمشاركة الشعبية في إدارة الدولة؛ وقدمت العديد من التضحيات ليتم إقراره، أهمية وجود ضمانات تكفل أن تكون الأمة هي مصدر السلطات جميعاً كما جاء في المادة السادسة، فحرصت على تضمين الدستور عدداً من المواد التي تكفل العديد من الحريات، كالحرية الشخصية، وحرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير والاجتماع والتقاضي وغيرها العديد من الحريات. بل لم تكتف تلك الشخصيات والقوى الوطنية التي ساندتها بتلك الضمانات، بل اعتبرت دستور 62 دستور الحد الأدنى، وعزمت على تنقيحه نحو مزيد من الحريات وربما كانت لتنجح في ذلك لولا تزوير انتخابات 1967، التي جاءت لتمنع وصول أكبر عدد ممكن من الشخصيات الوطنية التي تطالب بمزيد من الحريات والضمانات والتطور الديموقراطي.لم تكتف السلطة بتلك الحادثة ولا بالانقلاب على الدستور؛ الذي تم مرتين في تاريخ الكويت، بل استخدمت كل السبل الممكنة لتعطيل ومنع ذلك التطور الطبيعي والحتمي للمجتمعات والدول، وقامت بمحاربة القوى المدنية والديموقراطية المطالبة بذلك التطور، فتحالفت السلطة مع قوى الاسلام السياسي لضرب القوى المدنية، فتم حل نادي الاستقلال – وهو النادي الثقافي الذي يجمع القوى المدنية – وتم التضييق على الحريات من خلال قانون التجمعات وغيره من القوانين المقيدة لحرية الرأي، بمباركة ذلك الحليف الاستراتيجي – تيارات الاسلام السياسي – الذي سخرت له كل الامكانيات والسبل ليتغلغل في المجتمع، فتسيدت عناصره المشهد السياسي من دون منافس، فمن يخالفهم هو بالضرورة يخالف شرع الله، وبالتالي يخرج من الملة، ومن يطالب بالحريات التي باتت تنتهك مراراً وتكراراً هو بالضرورة فاسق فاجر يطالب بالتفسخ والانحلال الاخلاقي للمجتمع!ولكي أكون منصفاً، لن إلقي اللوم كاملاً على السلطة وتحالفها، فالقوى المدنية والديموقراطية تتحمل جزءاً من المسؤولية في قضية انتهاك الحريات والضمانات الدستورية، فقد ركزت القوى المدنية في تلك الفترة على قضايا الفساد وانتهاك المال العام، ولم يكن في ذهنها أن الحريات التي باتت تنتقص شيئاً فشيئاً هي حجر الزاوية الذي ترتكز عليه أي مطالبة بمكافحة الفساد أو تحقيق المكاسب الشعبية أو حتى استكمال العملية الديموقراطية، فوصلنا اليوم لمرحلة تكون فيها تغريدة واحدة تكشف عملية رشوة أو تنفيع أو حتى اختلاس للمال العام، كفيلة بأن تلقي بك في غياهب السجن لعشرات السنين، بينما من سرق ملايين الدنانير من المال العام يعيش عيشة الملوك في ربوع أوروبا.اليوم وكما هو الحال في أي تحالف مبني على المصلحة، انتهت مصلحة السلطة من تيارات الاسلامي السياسي، بعد أن حققت مكاسبها في الانتقاص من المكتسبات الدستورية، فبات هؤلاء يرددون المقولة المشهورة «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، فكما باركوا انتقاص الحريات والتعدي على من يخالفهم جاء دورهم اليوم لينتقص من حرياتهم وتتم محاربتهم…ولكن كما يقول المثل الكويتي «تموت الدجاجة وعينها بالسبوس»، فهم على الرغم من معاناتهم اليوم من التضييق على حرياتهم وضربهم من قبل السلطة، بل وحتى على المستوى الاقليمي، إلا انهم ما زالوا يمارسون عادتهم المفضلة في الوصاية على الناس والانتقاص من الحريات الشخصية، فلم يمر شهر على خروج أحد نواب الاسلام السياسي من السجن بسبب قضية سياسية حتى بدأ بالتهديد والوعيد للحكومة بسبب اقامة احدى الجامعات حفلاً غنائياً للطلبة، تلاه مباشرة تصعيد زملائه من التوجه نفسه بسبب فعالية قرع الجرس في البورصة، ثم وصف النساء غير المحجبات، بالانحلال والكفر من خلال منابر المساجد!لم تفهم قوى الاسلام السياسي أن الحريات تأتي كرزمة واحدة، وأن الانتقاص من أي جزء منها سيؤدي للانتقاص من بقية الحريات، بل ما زالوا مصرين على أن الحريات يجب أن تفصل على مقاسهم وحسب أهوائهم، بينما بدأ في المقابل يتشكل الوعي المجتمعي نحو قضية الحريات، فرفضت القوى المدنية ذلك التعدي على الحريات الشخصية، واستنكر العديد من الناشطين ومؤسسات المجتمع المدني الكلام المشين ضد المرأة غير المحجبة، والدور الآن على المجتمع ليعي أن الحريات هي الضمان الرئيسي لكل حقوقنا، فلا يمكن تطوير العملية الديموقراطية من دون حرية الرأي، ولا يمكن مكافحة الفساد من دون حرية النشر، ولا يمكن ترسيخ احترام تلك الحريات من دون احترام للحرية الشخصية… ولن يدافع عن تلك الحريات من لا يؤمن بها من الأساس.وقد أصبح من الضروري أن تتحمل القوى السياسية المدنية مسؤوليتها في الدفاع عن تلك الحريات والمكتسبات، وأن تبادر لنشر الوعي في المجتمع، لندخل في عصر «الصحوة المدنية المباركة».بقلم د. حمد الأنصاريجريدة الراي الكويتية٣ أبريل ٢٠١٨