البنية الاجتماعية الطبقية في الكويت وفق منظور الحركة التقدمية الكويتية
بدءاً لابد من دحض خطأ سائد لا صلة له بالماركسية يفترض أنّ الغنى والفقر هما العنصران الأساسيان لتبلور الطبقات الاجتماعية في أي مجتمع رأسمالي، وكثيراً ما يجري استخدام هذا التصوّر الخاطئ علمياً لإنكار وجود طبقات اجتماعية في الكويت، وتحديداً لإنكار وجود الطبقة العاملة على ضوء مستوى المعيشة المرتفع نسبياً في الكويت، أو في بلدان الخليج العربية الأخرى، مع تجاهل المعايير العلمية لتبلور الطبقات الاجتماعية المختلفة.ذلك أنّ الطبقة الاجتماعية ليست طائفة؛ ولا مرتبة؛ ولا مهنة، ولا حرفة؛ ولا درجة، ولا تقوم على الثروة أو الدخل أو قيمة الأجر أو مستوى المعيشة ونوعها، على الرغم من أنّها قد تعكس العديد من هذه الخصائص، وإنما الأساس الاجتماعي في تبلور أي طبقة اجتماعية في ظل التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية وفي إطار بنيتها الطبقية إنما يتحدد وفقاً لعلاقات الانتاج ذات الطابع الرأسمالي، وعلى ضوء اختلاف علاقة الطبقات الاجتماعية المختلفة بوسائل الانتاج ومكان هذه الطبقة أو تلك ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل، وبالتالي فإنّ الطبقة العاملة بمعناها الواسع هي الطبقة التي لا تمتلك وسائل الانتاج وليس لديها سوى قوة عملها وتحصل على دخلها عن طريق الأجر، وهذا ما ينطبق بالدرجة الأولى على العمال الصناعيين، ولكنه يشمل العمال والتقنيين والمهنيين والموظفين بأجر في مجالات الخدمات والنقل البري والبحري والجوي والبنوك والتجارة والإدارة العامة.ومما سبق فإننا عندما نلقي نظرة تحليلية على البنية الاجتماعية الطبقية في الكويت، نجد أن القوى الاجتماعية المسيطرة اقتصادياً والمتنفذة سياسياً والتي تهيمن على مقدرات البلاد وتُوجه النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفق مصالحها، تتمثل في السلطة وأطراف الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر، الذي يضم:أولاً: أسرة الحكم التي تحتفظ القوى المتنفذة فيها بدور أساسي في تسيير أمور الحكم والدولة، وتحتل موقع الفئة المهيمنة ضمن الطبقة المسيطرة.ثانياً: الطغمة المالية من ممثلي رأس المال المالي، التي تكونت عبر اندماج البرجوازية المصرفية الكبيرة مع البرجوازية الكمبرادورية (كبار الوكلاء التجاريين)، حيث أخذت هذه الطغمة بالنمو في السبعينات بعد "الفورة النفطية" عندما تركزت الرساميل في أيديها وازداد ارتباطها بالرأسمال الاحتكاري العالمي، مع ملاحظة أنّ تركّز رأس المال في سياق تطور الرأسمالية الكويتية قد سبق عملية تمركز الانتاج. وتشكّل هذه الطغمة المالية القسم الأكثر رجعية ومعاداة لأية توجهات ديمقراطية أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ذات طابع تقدمي.ثالثاً: بقية أطراف هذا الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر من كبار الوكلاء التجاريين (الكمبرادور)، وكبار الملاك العقاريين، وكذلك البرجوازية البيروقراطية (كبار المتنفذين من موظفي الدولة) التي تتمتع بامتيازات اجتماعية ومادية وتثري بأساليب متنوعة.وليست لهذه القوى مصلحة جدية تربطها بالبناء الوطني والعمل المنتج مادامت قادرة على الاستيلاء على الجزء الأكبر من الثروة الوطنية عن طريق النشاطات الطفيلية والتنفيع، حيث أن سياسة توزيع الثروة والدخل الوطني موجهة وفق مصالح هذه القوى، ونحو بقية أطراف الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر.وفي سياق التطور الرأسمالي، نجد أنّه منذ السبعينيات، وخصوصاً بعد العام 1973 عندما تضاعفت إيرادات الريع النفطي على نحو غير مسبوق بعد الارتفاع الكبير لأسعار النفط في العالم عقب حرب أكتوبر، ثم امتلاك الدولة لشركات النفط في العام 1975 وسيطرتها على مختلف مجالات الصناعة النفطية بدءاً من الاستخراج مروراً بالتصدير وصولاً إلى مصافي التكرير والصناعات البتروكيماوية وانتهاءً بالتوزيع في السوق المحلية، التي مثّلت خطوة وطنية هامة، فقد أدّى ذلك في المقابل إلى تنام سريع وكبير في حجم رأسمالية الدولة "القطاع العام" في الكويت، بحيث أصبحت الدولة بالفعل هي المالك الأكبر لوسائل الإنتاج الرئيسية والمنفق الأعظم في السوق المحلية وبالتالي المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي وربّ العمل الأول الذي يوظّف غالبية قوة العمل من الكويتيين.ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أنّ دور رأسمالية الدولة ومضمونها الطبقي إنما تحددهما طبيعة السلطة ومصالح الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر في المجتمع والتوجه الاقتصادي والاجتماعي السائد في الدولة، بالإضافة إلى أنّ الفساد ونهب أصول الدولة وتوظيف جهازها واستغلاله وبقية الأنشطة الطفيلية قد أصبحت من أهم مصادر الإثراء غير المشروع، بل أنّ الفساد أصبح مكوناً بنيوياً للرأسمالية في بلادنا.وفي المقابل هناك القوى الاجتماعية المتضررة من التطور الرأسمالي المشوّه والتابع، ومن النهج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للسلطة وقوى الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر، التي هي صاحبة المصلحة في التغيير الوطني والديمقراطي والاجتماعي، وهي تتمثل في:أولاً:الطبقة العاملة، التي تكونت ضمن سياق التطور الرأسمالي التابع والريعي والطفيلي، حيث تشكّلت الطبقة العاملة في الكويت ونمت واتسع حجمها وتبلور وجودها كطبقة اجتماعية، وهي تمثّل أوسع الفئات الاجتماعية المتضررة من النهج القائم، كما أنها صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والتقدم. ويتشكّل القسم الأوسع من الطبقة العاملة في الكويت من العمال الوافدين، الذين تمّ تهميشهم بحكم واقعهم، وهم يتعرضون إلى أبشع أنواع الاستغلال الطبقي، ناهيك عن كونهم عمالاً وافدين وليسوا مهاجرين مستقرين، كما تَفرض القوانين عليهم قيوداً غير ديمقراطية وغير إنسانية تمنعهم من المشاركة في أوجه الحياة العامة في الكويت، بما فيها حقهم في العمل النقابي، وهذا ما ينطبق بقسوة أكثر على العمال من الكويتيين البدون المحرومين من أبسط الحقوق، فيما يمكن القول أنّ الطبقة العاملة بمعناها الواسع، تضم قسماً كبيراً من المواطنين الكويتيين العاملين بأجر؛ مع ملاحظة الفوارق النوعية في طبيعة العمل والتكوين والوعي الطبقي بين العاملين منهم في الصناعة، وخصوصاً النفطية وإنتاج الطاقة والمياه من المرتبطين بوسائل الإنتاج الصناعية الحديثة، قياساً بأولئك العاملين الإداريين في القطاع الحكومي من موظفي الخدمة المدنية، وكذلك بين هؤلاء وبين أمثالهم من موظفي القطاع الخاص.وبالإضافة للطبقة العاملة هناك أوساط المثقفين وشغيلة الفكر، والنساء اللاتي يلحق بهن تمييز، والشباب والطلبة، الذين هم أميل إلى أفكار التقدم والمساواة والتغيير، وذلك بفعل عامل السن والصراع مع القديم والقلق من المستقبل المحفوف بالأزمات.ثانياً: شرائح البرجوازية الصغيرة من أصحاب الاستثمارات الصغيرة والمهن الحرة وغيرهم الذين يعانون كمستأجرين أو مستهلكين أو أجراء، ناهيك عما تعرضت له مدخراتهم من تآكل في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة في سوق الأسهم وغيرها، وما تواجه مناشطهم الاقتصادية الصغيرة من تحديات في ظل الميل نحو تمركز الانتاج، فيما تتعرض الكوادر الفنية والإدارية والمثقفين الذين تلقوا تعليماً أكاديميا متخصصاً، إلى تغيرات في وضعها وتمايزات في صفوفها بفعل التطور الرأسمالي، حيث يقل بينهم شيئاً فشيئاً عدد أصحاب المهن الحرة الذين يعملون في مؤسساتهم المهنية الخاصة، ويزداد في المقابل عدد الكوادر الفنية والإدارية والمثقفين من العاملين بأجر لدى الغير من "ذوي الياقات البيضاء"، حيث يقترب الوضع الاجتماعي للفئات الدنيا بينهم من وضع الطبقة العاملة على الرغم من احتفاظ هؤلاء بخصائصهم الاجتماعية ووعيهم البرجوازي الصغير حيث يتصورون أنفسهم متميزين عن العمال، على الرغم من معاناتهم من التسريح من العمل والبطالة والتضخم.ثالثاً: الفئات المتوسطة من البرجوازية، التي تعاني هي الأخرى من مزاحمة غير متكافئة من رأس المال الكبير، إلا أنه يجب ملاحظة تذبذب هذه الفئات من البرجوازية سواء الصغيرة أو المتوسطة وذلك بسبب طبيعتها الطبقية المزدوجة من حيث تضررها من رأس المال الكبير من جهة وموقعها الطبقي كمالكة لوسائل الانتاج من جهة أخرى.رابعاً: الفئات المرتبطة بالإنتاج المحلي من البرجوازية في قطاعات الصناعة والخدمات المحلية والمقاولات التي تشكو من ضعفها أمام ضغط المصالح الكبيرة وسطوة الفئات الطفيلية، وتعاني من هيمنة الطغمة المالية على الاقتصاد، ومن مزاحمة غير متكافئة مع البرجوازية الكمبرادورية (كبار الوكلاء التجاريين)... وهذا ما تعبّر عنه مطالبات وشكاوى المنظمات الممثلة لها مثل "اتحاد الصناعيين" و"اتحاد المقاولين"، مع ملاحظة الطبيعة الازدواجية المتناقضة لهذه الفئات التي لها مصلحة في تطوير الاقتصاد الوطني، إلا أنّها في المقابل بحكم طبيعتها الطبقية وارتباطاتها المصلحية التي لا تنفصم مع الفئات الأخرى من الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر فإنّها تتردد في التصدي للنهج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لقوى الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر وتتخوّف من الحركة الشعبية.ومن هنا فإنّ البرجوازية بحكم مصالحها الطبقية الضيقة وطبيعتها الطفيلية في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي الريعي التابع وارتباطها بالإمبريالية وعلاقتها مع أسرة الحكم وضعف تكوين البرجوازية المرتبطة بالانتاج المحلي، وخشيتها من حركة الجماهير، وميلها نحو المساومة فإنها لم تعد قادرة على المساهمة بدور فعال في عملية التغيير الوطني والديمقراطي والاجتماعي، بل إنها تتعارض معها وتقف عقبة أمام التطور في هذا الاتجاه، وبالتالي فإنّ انجاز مهام التغيير الوطني والديمقراطي والاجتماعي مرتبط بدور القوى الاجتماعية الشعبية الواسعة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، في النضال من أجل إنجاز هذه المهام.ذلك مع عدم تجاهل حالات الاستقطاب الاجتماعية الفئوية والقبلية والطائفية، التي هي نتاج التخلف الاجتماعي واستمرار تماسك بعض المكونات التقليدية وامتداد تأثيراتها، وتراجع مشروع بناء الدولة الحديثة وإضعاف مفهوم المواطنة الدستورية، وما تمثّله هذه الاستقطابات من شعور واهم بالانتماء إلى هذه الهويات الصغرى الفئوية والقبلية والطائفية على حساب الهوية الوطنية الكبرى أو الانتماء الاجتماعي الطبقي، وهذا ما تحاول السلطة وأطراف الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر تكريسه وإعادة إحيائه.